اللغة الأدبية أساس النحو العربي
لا بد لنا أن نقرر أن العربية نشأت وعاشت فترة طويلة من الدهر لغة ادبية يتفنن فيها الشعراء والخطباء وأكد هذه الميزة الأدبية نزول القرآن الكريم بنسقه الأدبي المعجز على ما سبق أن أشرنا إليه في فصل سابق ( إشراقة القرآن و إعجازه )
وحين لاحت ضرورة وضع قواعد نحوية للغة العربية اتجه العلماء إلى ديوان العربية وهو الشعر فاستخرجوا من أنساقه قواعد التركيب كما استخرجوا من مفرداته قواعد الصوغ القياسي و بنوا مقاييس اللغة على نسبة الشيوع ثم جعلوا الأقل استثناء من المقياس العام .
وعلى الرغم مما لابس عملية التقعيد من خلط أحيانا – بين اللهجات أو بينها وبين المستوى الفصيح – فقد كان الأساس المشترك دائما هو ما روي عن الشعراء والخطباء من أقوال سارية على الألسن ، فاشية في الناس .
ولقد تقبل النحاة ما بدا من تضارب في الشواهد المروية ليجعلوا في المسالة الواحدة قولين أو أكثر دون أن يجدوا في ذلك غضاضة أو يحسوا حرجا حتى إن النحو قد انتهى إلى الأجيال اللاحقة مطبوعا بطابع الاختلاف وتعدد الأقوال بل وربما سلك مسلك التناقض . ( فالأداة "ما" تعمل باعتبارها حجازية فترفع الاسم وتنصب الخبر ولا تعمل باعتبارها تميمية )
وما نحسب أن تعدد الأقوال أو تضاربها يعزى إلى اختلاف القبائل فحسب أي : إلى اختلاف مصادر الرواية بل إنه يرجع أساسا – وفي تقديرنا – إلى أن مصدر التقعيد كان أدبيا ومن شأن اللغة الأدبية أن تختلف في الجانب التركيبي اختلافا بينا من فرد إلى فرد ومن شاعر إلى شاعر بل من شاعر في موقف معين إلى نفس الشاعر في موقف آخر نتيجة اختلاف المشاعر وتباين الأحاسيس وتغير الظروف البيئية والنفسية هذه حقيقة علمية مسلمة .
وقد لاحظ الأقدمون – مثلا – أن انتقال العربي من بيئة بدوية إلى أخرى حضرية يؤثر في لغته ورووا في هذا أقاصيص منها قصة أبي عمرو بن العلاء مع أبي خيرة الأعرابي حين جاءه بجملة تشتمل على جمع مؤنث سالم في حالة النصب وطلب من أبي خيرة ضبط الجمع فنطق به مفتوحا فقال أبو عمرو : " هيهات ، لان جلدك يا أبا خيرة " .
لقد أصبح أبو خيرة من الحضر أهل السواد أكلة الكواميخ والشواريز بعد أن كان من أهل البداوة حرشة الضباب وأكلة اليرابيع .
لسنا نريد بهذا القول أن نقول : إن العربية في مستواها الأدبي تختلف بالضرورة هذا القدر من الاختلاف دائما بقدر ما نحرص على تسجيل أن الطابع الأدبي كان صفة كل المرويات التي سجلت اختلاف القبائل فيما تمثل من سنن اللغة وقد كان الاختلاف في الروايات النثرية كالأمثال والمأثورات الحكمية موازيا للاختلاف في الأشعار .
وملحظ آحر لابد من تقريره هو أن الشعراء يتفاوتون في قدراتهم البيانية ومن ثم في افتنانهم اللغوي وطبيعي أن يختلفوا إذن في طرائق التعبير عن المعنى الواحد وفي مرونة استعمال الأدوات التي هي عمود الأسلوب وقوامه وبهذا تتفاوت أقدارهم فيحتل بعضهم القمة ويتشبث الآخرون بالسفوح .
وهكذا كان قدر العربية أن تقعد قواعدها على أساس اللغة الأدبية لأن المرحلة الحضارية التي عاشتها اللغة حتى نهاية القرن الثاني وهي مرحلة الرواية كانت مرحلة أدبية يمثلها الصراع السياسي والعسكري والاقتصادي والفكري .
وحين بدأت اللغة تستخدم في التعبير عن العلوم كان النحو العربي قد استقر في أعمال علماء وأئمة تربعوا على عرشه ولم يستطع أحد أن ينزلهم من فوقه حتى يوم الناس هذا ، فقد كسبت أعمالهم قيمة تقترب من القداسة وصارت إعادة النظر في بعض ما كتبوا نوعا من التجديف لدى بعض أهل العلم من المشتغلين بالعلوم العربية .
وهذا هو الذي يفسر لنا ما نجده من إحساس بغرابة اللغة العلمية التي نقرؤها في كتاب مثل ( القانون ) ، فقد تكونت أذواقنا تكونا أدبيا واستقرت عاداتنا التعبيرية على المقاييس الأدبية التي جرى عليها الشعراء والكتاب من قديم الزمن . فمهما وجدنا من مسافة تفصل لغة العلماء عن المعهود من تقاليد اللغة كان ما أسلفنا من ملاحظة هو أساس في هذا الانفصال بين لغة العلم ولغة الأدب في اللسان العربي
.................................................. .................................
العربية لغة العلوم والتقنيّة : د/ عبد الصبور شاهين
لا بد لنا أن نقرر أن العربية نشأت وعاشت فترة طويلة من الدهر لغة ادبية يتفنن فيها الشعراء والخطباء وأكد هذه الميزة الأدبية نزول القرآن الكريم بنسقه الأدبي المعجز على ما سبق أن أشرنا إليه في فصل سابق ( إشراقة القرآن و إعجازه )
وحين لاحت ضرورة وضع قواعد نحوية للغة العربية اتجه العلماء إلى ديوان العربية وهو الشعر فاستخرجوا من أنساقه قواعد التركيب كما استخرجوا من مفرداته قواعد الصوغ القياسي و بنوا مقاييس اللغة على نسبة الشيوع ثم جعلوا الأقل استثناء من المقياس العام .
وعلى الرغم مما لابس عملية التقعيد من خلط أحيانا – بين اللهجات أو بينها وبين المستوى الفصيح – فقد كان الأساس المشترك دائما هو ما روي عن الشعراء والخطباء من أقوال سارية على الألسن ، فاشية في الناس .
ولقد تقبل النحاة ما بدا من تضارب في الشواهد المروية ليجعلوا في المسالة الواحدة قولين أو أكثر دون أن يجدوا في ذلك غضاضة أو يحسوا حرجا حتى إن النحو قد انتهى إلى الأجيال اللاحقة مطبوعا بطابع الاختلاف وتعدد الأقوال بل وربما سلك مسلك التناقض . ( فالأداة "ما" تعمل باعتبارها حجازية فترفع الاسم وتنصب الخبر ولا تعمل باعتبارها تميمية )
وما نحسب أن تعدد الأقوال أو تضاربها يعزى إلى اختلاف القبائل فحسب أي : إلى اختلاف مصادر الرواية بل إنه يرجع أساسا – وفي تقديرنا – إلى أن مصدر التقعيد كان أدبيا ومن شأن اللغة الأدبية أن تختلف في الجانب التركيبي اختلافا بينا من فرد إلى فرد ومن شاعر إلى شاعر بل من شاعر في موقف معين إلى نفس الشاعر في موقف آخر نتيجة اختلاف المشاعر وتباين الأحاسيس وتغير الظروف البيئية والنفسية هذه حقيقة علمية مسلمة .
وقد لاحظ الأقدمون – مثلا – أن انتقال العربي من بيئة بدوية إلى أخرى حضرية يؤثر في لغته ورووا في هذا أقاصيص منها قصة أبي عمرو بن العلاء مع أبي خيرة الأعرابي حين جاءه بجملة تشتمل على جمع مؤنث سالم في حالة النصب وطلب من أبي خيرة ضبط الجمع فنطق به مفتوحا فقال أبو عمرو : " هيهات ، لان جلدك يا أبا خيرة " .
لقد أصبح أبو خيرة من الحضر أهل السواد أكلة الكواميخ والشواريز بعد أن كان من أهل البداوة حرشة الضباب وأكلة اليرابيع .
لسنا نريد بهذا القول أن نقول : إن العربية في مستواها الأدبي تختلف بالضرورة هذا القدر من الاختلاف دائما بقدر ما نحرص على تسجيل أن الطابع الأدبي كان صفة كل المرويات التي سجلت اختلاف القبائل فيما تمثل من سنن اللغة وقد كان الاختلاف في الروايات النثرية كالأمثال والمأثورات الحكمية موازيا للاختلاف في الأشعار .
وملحظ آحر لابد من تقريره هو أن الشعراء يتفاوتون في قدراتهم البيانية ومن ثم في افتنانهم اللغوي وطبيعي أن يختلفوا إذن في طرائق التعبير عن المعنى الواحد وفي مرونة استعمال الأدوات التي هي عمود الأسلوب وقوامه وبهذا تتفاوت أقدارهم فيحتل بعضهم القمة ويتشبث الآخرون بالسفوح .
وهكذا كان قدر العربية أن تقعد قواعدها على أساس اللغة الأدبية لأن المرحلة الحضارية التي عاشتها اللغة حتى نهاية القرن الثاني وهي مرحلة الرواية كانت مرحلة أدبية يمثلها الصراع السياسي والعسكري والاقتصادي والفكري .
وحين بدأت اللغة تستخدم في التعبير عن العلوم كان النحو العربي قد استقر في أعمال علماء وأئمة تربعوا على عرشه ولم يستطع أحد أن ينزلهم من فوقه حتى يوم الناس هذا ، فقد كسبت أعمالهم قيمة تقترب من القداسة وصارت إعادة النظر في بعض ما كتبوا نوعا من التجديف لدى بعض أهل العلم من المشتغلين بالعلوم العربية .
وهذا هو الذي يفسر لنا ما نجده من إحساس بغرابة اللغة العلمية التي نقرؤها في كتاب مثل ( القانون ) ، فقد تكونت أذواقنا تكونا أدبيا واستقرت عاداتنا التعبيرية على المقاييس الأدبية التي جرى عليها الشعراء والكتاب من قديم الزمن . فمهما وجدنا من مسافة تفصل لغة العلماء عن المعهود من تقاليد اللغة كان ما أسلفنا من ملاحظة هو أساس في هذا الانفصال بين لغة العلم ولغة الأدب في اللسان العربي
.................................................. .................................
العربية لغة العلوم والتقنيّة : د/ عبد الصبور شاهين