(الهنوف الحالمة ) فصل 26 من روايتي القادمة

إنضم
6 يوليو 2007
المشاركات
1,636
مستوى التفاعل
43
النقاط
48
الفصل 26


(الهنوف الحالمة)


من روايتي القادمة ...









أرَقٌ عَلى أرَقٍ وَمِثْلي يَأرَقُ
وَجَوًى يَزيدُ وَعَبْرَةٌ تَتَرَقْرَقُ
وَعَذَلْتُ أهْلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ
فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وَعَذَرْتُهُمْ وعَرَفْتُ ذَنْبي أنّني
عَيّرْتُهُمْ فَلَقيتُ منهُمْ ما لَقُوا
المتنبي







لم يكن هذا اليوم كالأيام السابقة فشمسه ناعسة ..
وسماؤه غائمة ..
وأنسامه ناعمة ..
وأطياره هائمة ..
وأجواءه حالمة ..
في ذلك اليوم أخذت العصافير ترفرف في صدر حمودي ..
تزيده أرقاً يكاد يفتق جنباته الرقيقة ..
في ذلك اليوم دخان الموقد بخور جاوي يعطر زوايا المكان ..
ودقات النجر إيقاع بتهوفني يدغدغ المشاعر ..
وألسنة النار صبايا فاتنات يتراقصن في عرس ملكة الحسن ..
كانت الأشياء ليست كالأشياء ..
رآها عندما أشرقت في منزله لأول مرة تختال في ثوبها الوردي المشجر بالأزهار الحمراء ..
المزموم من حول خصرها الخاتمي ..
رآها وخصلات الشعر تسيل كالشلال فتشتغل برفعها كلما شعرت بوجود من يرمقها ..
رآها فغيرت مفهوم الشمس .. ومكانها ..
رآها فجعلت القمر في ناظره حجراً ..
والنجوم في مخيلته أصفاراً ..
رآها وابتساماتها تطير كالفراشات ..
تلون المكان ..
تختزل الزمان ..
كانت أصغر منه سناً وحمودي في اليوم الأول من عمره ..
في وقتها كان لا يدرك معنى الشوق ..
معنى العشق ..
معنى الحياة ..
معنى أن يكون متيماً ..
ولكنه كان يدرك تماماً أنه غارق في سحرها حتى الثمالة ..
قَدِمتْ مع أسرتها زائرة إلى قريته الحالمة ، وحلوا ضيوفاً على أسرة حمودي في منزله الحجري ، فبعثرت أوراقه القديمة ورتبتها من جديد ..
لم يهو الجلوس في المنزل قبل هذه اللحظة ..
حينها شعر بأن منزله الحجري حديقةً وارفة نمت فيها زهرة صغيرة سقياها من مهجته ..
بقي ذلك اليوم في المنزل على غير عادته ، ساكن الجوارح .. هائم وسارح ..
يملأه الهدوء ..
ويكسوه السمت ..
تنبهت والدته لقلبها الصغير وهو على غير عادته :
- حمودي .. حبيبي .. وش فيك اليوم ما طلعت مع الورعان تلعب .. لا يكون يوجعك شي ؟!
- (تنهّد) لا .. ما يوجعني شي ..
- أجل وش فيك يا روحي ؟
- ما لي نفس اطلع برا البيت ..
- الله يصلحك يا حبيبي .. ويجعل يومي قبل يومك ..
عادت والدته إلى عملها وهي لا تدري ما الذي شغل فكره ..
وملأ قلبه ..
وأخرج تنهيدته البريئة ..
كان يسترق النظرات إلى تلك الزهرة فتبادله بابتسامة بريئة تختصر في ثناياها معاني الجمال والرقة والبراءة ..
في وقتها كان لا يجيد التعامل مع الزهور ، والفتاة الوحيدة التي تعامل معها من خارج أسرته هي مغيضة المؤذن ، وقد كان تعاملاً مشوباً بالتوتر والانتقام يمثله على أقرب صورة ما بين (توم وجيري) ..
أراد من تلك الزهرة أن تشاركه اللعب فاقترب منها ولمسها على كتفها وهرب ..
بادلته نفس التصرف ..
طار من ثغرها فراشات الضحك ..
تسلل إلى روحيهما ضوء الألفة ..
نبتت في قلبيهما شجيرة القدر ..
حينها غرقا في بحر اللهو البريء ..
حاول أن يكرر الكرة فأمسك جديلة شعرها الكثيف وشده بقوة فسقطت على الأرض تبكي ..
لفت شدوها البكائي انتباه والدته فهرعت إليها ..
- وش سويت بالبنت ؟
- ولا شي .. جيت امزح معها ، جريت شعرها وبكت ..
- انت ما تستحي على وجهك تمزح مع البنات .. رح العب مع الورعان ..
ياااااا الله .. نزل كلام والدته على مسمعه كالصاعقة ..
فشعر أنها ستغلق أبواب أنسه ، وتطفئ ضوء حياته ..
ستحرمه من العوم في بحر تلك الابتسامات البريئة الحالمة ..
ألقيت في سمع الحبيب كليمةً [1]
جرحت مشاعره فما أقساني
قطع الحديث وراح يمسح دمعه
فوددت أن أجزى بقطع لساني
وطفقت من ألمي أكفكف أدمعي
ورجعت من ندمي أعظ بناني
وأقول واخجلي إذا لاقيته
وبأي وجهٍ عابسٍ يلقاني
حتى ظفرت به ، فمد يمينه
ورنا إليا برقة وحنان
وبكى وعانقني وقال عدمتني
إن كان لي جلد على الأحزان
قل ما تشاء ولا تغب عن ناظري
وفداك ذلي في الهوى وهواني


قطعت زهرته بكاءها وقالت لوالدته :
- خلاص يا خالة سامحته ..

أيظن أني لعبة بيديه !! [2]
أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئا لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
حمل الزهور إليّ .. كيف أرده
وصباي مرسوم على شفتيه
ما عدت أذكر .. والحرائق في دمي
كيف التجأت أنا إلى زنديه
خبأت رأسي عنده .. وكأنني
طفل أعادوه إلى أبويه
سامحته .. وسألت عن أخباره
وبكيت ساعات على كتفيه
وبدون أن أدري تركت له يدي
لتنام كالعصفور بين يديه ..
ونسيت حقدي كله في لحظة
من قال إني قد حقدت عليه !!
كم قلت إني غير عائدة له
ورجعت .. ما أحلى الرجوع إليه

كان كلامها كطوق النجاة لقلبه الغارق في عباب التيه ، لم يتردد في التقاطه ..
عادت والدته إلى عملها وتسلل ليسقي زهرته من عينيه الصغيرتين ، وبادرها :
- وش اسمك ؟
- الهنوف ..
- اسمك حلو ..
أسدلت رمشيها على خديها واشتعلت وجنتيها حمرةً ..
- تلعبين معي زُقّيطَة ؟
- وش الزقّيطة ؟!
أخرج من جيبه خمسة أحجار في حجم رأس الإبهام أو أكبر قليلاً وأخذ يشرح لها طريقة اللعب التي تتم في وضع الجلوس ..
يلامس اللاعب إبهامه وسبابته من يده اليسرى بشكل قوس على سطح الأرض ، بحيث يصبح مثل المرمى ، ومن ثم ينثر الأحجار الخمسة على الأرض ..
يختار اللاعب أحد الأحجار البعيدة عن اليد اليسرى ويلتقطه بيده اليمنى ، ومن ثم يبدأ في رمي الحجر الذي بيده اليمنى إلى الأعلى وأثناء ارتفاع الحجر يحاول تمرير أحد الأحجار المنثورة بنفس اليد في خفة وسرعة وتوازن تحت قوس اليد اليسرى ، وهكذا يكرر العملية حتى يدخل جميع الأحجار ، ومن ثم يقوم اللاعب الثاني بنفس العملية ، وهكذا تستمر اللعبة ..
وأكثر من يمارس هذه اللعبة رعاة الأغنام..
أعجبتها اللعبة ، فشعر بالانتشاء وكأنه قد اخترع المصباح الكهربائي !!
وفي الخارج كان صديقه محمد عيضة يواصل التصفير المتقطع يريد منه الخروج على وجه السرعة ..
تجاهل ذلك الصوت ، وكأنه لا يعنيه .. ولا تربطه به أي صلة ، وواصل حلمه الجميل ..




[1] الشاعر القروي : رشيد الخوري

[2] نزار قباني


 
التعديل الأخير:

أسيرالشوق

المراقب العام
إنضم
18 أكتوبر 2007
المشاركات
55,084
مستوى التفاعل
48
النقاط
48
بارك الله فيك أخوي د/ محمد

مشكور على الموضوع الرائع
 

احاسيس

مشرفة سابقة
إنضم
10 أغسطس 2010
المشاركات
8,994
مستوى التفاعل
137
النقاط
63
رائعه ولي باك بتكمله قراءتها


موفق يارب ودمت بخير
 
أعلى