العواطف الأبوية في طرق الجبل

مـ سـ فـر

New Member
إنضم
19 أبريل 2010
المشاركات
13
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
عنوان بجريدة الرياض عن
العواطف الأبوية في طرق الجبل

عبدالرحيم الأحمدي:

درجات الصدق في التعبير تجلوها المشاعر وتحفظها النصوص الأدبية التي تتميز بالفصاحة والبيان المتناغم مع مشاعر المتلقي، والقارئ يجد نفسه بين نوعين من الكتابة أحدهما كلام جرايد هكذا أطلق عليه مع اليقين بأن ما ينشر في الصحف قمين بالمصداقية من حيث النشأة والهدف، والاعتقاد بغلبة الأهداف الاعلامية عليه أو مفهوم التوجيه هو ما جعله كلام جرايد، ونحن نرى اليوم ونقرأ ما يزهدنا في احترام الاعلام أو احترام الكلمة التي تصدر عبر وسائله، وقد يظلم الاعلام غلبة توجهاته، غير أن إدراك ما وراء ذلك يخفف من حدة اتهامه. وثانيهما ما يصدر عن معاناة المبدعين والتقاء مشاعر المتلقين به، وتعاطفهم معه، واحساسهم بأنه يعبر عن شيء في وجدانهم، وهذا يتجلى في الأعمال الأدبية شعراً أو نثراً.

وما يطرح في الصحف السيارة ليس متاحاً للقراء مثل الكتب، ولذا نجد الشعر المدون في الكتب يكشف لنا عن معاناة مبدعيه ويقدم معلومات قد لا تشير إليها كتب التاريخ ومصادر المعرفة الأخرى مهما قدم زمن تدوينها. وبين يدي مقطوعات شعرية للشيخ على جماح الغامدي المتوفى عام 1364ه وهو من رجالات غامد المعروفين بالصلاح والإصلاح بين القبائل، وقد وفق ابنه محمد في جمع وتحقيق أشعار والده واصدارها في ديوان: «ديوان المصباح من شعر وهاجس الشيخ علي جماح»، وتلقيت الديوان إهداء من اللواء مسفر الغامدي الذي عرف بإبداعه ومؤلفاته القيمة.

في الديوان قصائد وعظية مطولة، ومقطوعات شعرية في المساجلات والمراسلات تمتاز بالعذوبة والحكمة، وقد وردت وفق المنهج العام للشعر الشعبي في المملكة حينا وحسب الأسلوب المتبع في جبال السروات في البدع والرد، وهو أسلوب يصعب شرحه من قبل من لم يعش أدواره، ويجيد معرفة تقاليده، لأن شعراءه يستخدمون بلاغة البديع من جناس ومقابلة وطباق بمعيار شعبي يغلب عليه الشفاهية وتغيب عنه الدقة في كتابة المفردات المستخدمة لهذا اللون البلاغي.. ويطلقون على هذا اللون من الشعر طرق الجبل. وأجد معرفتي بتقاليد هذا الفن قاصرة عن التفصيل فيه، إلا أن فيه من الفنية والفنون البلاغية والصعوبة ما دفع الشعراء لاستخدامه لاختبار فطنة مناظريهم ومساجليهم في محاورات الرد والمراسلة، وإبداء مهارتهم في نظمه.

وما اخترته من ديوان المصباح يتصل بمعاناة الشاعر لغياب ابنه بعيداً عن الديار، مشاعر تذكرنا بمراسلة دباس وأبيه، والفرق بينهما أن والد دباس وابنه عبرا عن مشاعرهما بقصيدة طويلة من الأب وأجاب الابن بمثلها، وجماح استخدم المقطوعات الشعرية لاستثارة ابنه.

وكما نعلم فإن سكان أطراف المملكة يسافرون إلى أقرب الدول إليهم بحثا عن الرزق تجارة أو عملا، وأهل السراة أقرب الديار إليهم السودان واثيوبيا، إذ يعبرون إليهما من خلال البحر الأحمر من خلال الموانئ المواجهة لافريقيا مثل جازان والقنفذة. وابن الشاعر ذهب مع رفاقه إلى الحبشة (اريتريا – اثيوبيا) وكان يهاجر إليها عدد كبير من أبناء غامد وزهران وغيرهم ممن تقع ديارهم مواجهة للساحل الغربي للبحر الأحمر.
طال غياب الابن هناك واشتاق الوالد إليه، وخشي من أمرين الأول أن يحول الموت دون رؤية الأب أو الابن، وثانيهما الخشية على الابن من الغربة، فأرسل لابنه ثلاث مقطوعات هي:

محمد ان كان في راسك ترى شيمة

فعد ليلك ويومك من ليالينا

وان كان زانت لك الأيام شيِّنها

ولا تقول في أي شهرٍ فيه مات ابي

أسلوب استعطافي لعودة الابن، وهذه المقطوعة يسمونها بدعاً وكل بدع يتطلب رداً، وقد يبدع الشاعر نفسه رداً مكملا للبدع، وكان الرد:

مالي بخطك ولا نبغي تراشيمه

ياكم نلالي ولا سرَّت ليالينا

لقيت شيْ في الكتب يامر وشيْ ينهى

ونهيت قلبي يُتبْ م الحزن ما تابِ

بالنظر إلى المقطوعتين نجد أن الأولى تستثير الابن للعودة لأرض الوطن، ويحفزه إلى ذلك بان كان لديه شمم وعزة يميز بهما بين الواجبات فليعد لدياره وأهله ليسعدوا باجتماعهم، حتى وإن وجد طيبا في أيام الغربة فلا يستطيبها، وعليه أن يتذكر شيخوخة والده ودنو أجله بظهور ملامح الشيخوخة، حتى إذا طال غيابه ووجد أن أباه قد مات فيتساءل متى مات وفي أي شهر وافته المنية فيتحسر ان لم يكن حاضرا أيام والده الأخيرة وفي ذلك أذى وألم كبير سيتجرعه.

أما الرد فهو توكيد على جزع الأب من غياب ابنه، وأنه ما عادت تهمه الرسائل وتنميقها فقد طفح كيل الشوق، وتغنى بأماني العودة ولم يفده أو يدفع ألم أشواقه، ومهما وجد في الكتب من الأمر بالعطف على الأبناء والنهي عن الحب المفرط، وكم نهى قلبه عن ذلك ودعاه للتوبة عن الحزن الشديد إلا أنه لم يتب ولم يأتمر بذلك.

أما قواعد اللعبة فهي تتركز في القافية ونرى في المقطوعة الأولى (ترى شيمة) وفي الثانية (تراشيمة) تركيبان متوافقان في الحروف مختلفان في المعنى، ومثلهما تركيب (شيِّنها) و(شيْ ينهى) وقوله: (مات ابى) ويكتبونها (ما تابي) و(ماتابي) وقد كتبناها وفق دلالتها.

وفي المقطوعة التالية يردد ما قاله الاولون والتالون من أماني لعودة عصر الشباب ليحققوا طموحهم، ولا ينتظر عودة الابن بل يذهب إليه ويستصحبه في طريق العودة:

ليت الصبا يشترى واشريه من مالي

واللي يقول: سيِّقوا ناهب سياقة له

ويعوِّد الشَّوْف لي والساق ينقل بي

والزيف لا زيَّف الصبيان في العرضة

لكن حارت بي الاقدام في داري

المعاني واضحة ومعنى: سيقوا: أي سوقوا وادفعوا المال لرد الشباب. ناهب: نهب ونعطي. والشوف: النظر. الساق: القدم والرجل. حارت: توقفت عن الحركة.

إنه يشكو عجزه عن تحقيق طموحه وما كان يود قوله أو طرحه يظهره في الرد التالي:

من يا تكبَّرْ يغنَّى له بموَّال

يقعد بكبره ويمشي في سياق اهله

وانا ادعي الله يجيبك يا رضا قلبي

والثوب ما ضقت من طوله ومن عرضه

واللي معه مدروي للناس فيداري

نقد اجتماعي للمجاملة والمديح الذي يقدمه الضعفاء للمتكبرين من ذوي الجاه والمال، أما الشاعر فلا يعنيه ويسعده إلا عودة ابنه، ويعبر عن السعة في الرزق بالطول والعرض للثياب التي تستر الجسد.

وبعد المعاناه يفاجئه ساعي البريد ببرقية من جازان تبشره بعودة ابنه للبلاد:

يا الله لك الحمد نون العين قرْ بها

من يوم جا من جبل جازان برقية

جتنا البشارة من اغمار يسرُّونا

وناس لو نحمله ما سر حوماله

وهو يشيد بالمبشرين (الاغمار) وهم الرجال المثاليون، ويقارنهم بمن لا نفع منهم، من لا يجلبون السرور لعدم إدراكهم للمصلحة.
كان هذا هو البدع أما الرد وهو البيان عن الحالة فيقول:

يبقى الذي عملة الضيفان قربها

ولا ترقَّى مع أهل البخل برقيُّه

مَعَ رجالٍ على المعنى يسرُّونا

يا ويل من سرحوه او سرحوا ماله

وعملة الضيفان هي أدوات الضيافة من أوانٍ وسواها. واهل البخل قد يبلغون العلا ليس بصنايعهم وأعمالهم الفاضلة وانما بالمجالة والمحاباة ووسائل الترقي المشبوهة، وسرحوه أهملوه واضاعوه.
أما أدوات البلاغة في المقطوعتين فإن (قربها) في الأولى هي (قر بها) قرت عينه وفي الثانية (قربها) أي أدناها. وإن (برقية) في الأولى فهي رسالة برقية. وفي الثانية (برقيه) فهي جار ومجرور مضاف إليه الضمير. وكلمة (يسرنا) في الأولى يسرون بالأخبار السارة، وفي الثانيه يدخلون السرور إلى قلوبنا والتسرية من التسلية والانشراح. و(حوماله) في الأولى أي حمله، و(سرحوا ماله) كلمتان، وقبل ذلك عبارة (في داري) في الأولى، و(فيداري) في الثانية والمعنى واضح.

في هذا الفن يبقى الاعتماد على الشفهي، فلا تطلق المطابقة بدقة الفصحى. ومن لا يتذوق هذا الفن فله العذر ولو تأمله لاستطابه وأدرك قيمته الفنية وبلاغة شعرائه. والفنون الشعبية في بلادنا لم تتناولها أقلام حاذقة تجلو ما تحمل من ابداع، وإنما تركت للمجتهدين.


شكراً للواء مسفر الغامدي على إهدائه، ومرحبا بهذا الفن آملاً أن يتناوله من هو خير مني فهما لجمال إبداعه.


الرابط / ط¬ط±ظٹط¯ط© ط§ظ„ط±ظٹط§ط¶ : ط§ظ„ط¹ظˆط§ط·ظپ ط§ظ„ط£ط¨ظˆظٹط© ظپظٹ ط·ط±ظ‚ ط§ظ„ط¬ط¨ظ„
 
أعلى