الجاحِظ .. جولة في كتبه

أبي الإسلام

مشرف سابق
إنضم
21 مايو 2008
المشاركات
2,137
مستوى التفاعل
69
النقاط
48
الإقامة
في مكتبتي وبين كتبي
[ الموضوع طويل نوع ما، وأنا لا أبيح لأحد الرد إلا إذا قرأ الموضوع كاملاً ( معذرةً) ]

=============================


الجاحِظ .. جولة في كتبه


وُصِف في عصره بأنه شيخ الأدب، ووُصِفت كُتُبُه بالرياض الزاهرة، ورسائلُه بالأفنان المثمرة.. وما زالت رياضُه إلى يومنا هذا مونقة، وثمارُه يانعة .. فعَلَمٌ هذا وصفُه حريٌ بنا أن نتفبأ في ظلال دوحه؛ لننعم بما جادت لنا به قريحته..
هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني المكنَّى بأبي عثمان، وله طُرفة في كنيته هذه، حيث قال: نسيتُ كنيتي ثلاثة أيام، حتى أتيتُ أهلي، فقلتُ لهم: بِمَ أُكَنَّى؟ فقالوا: بأبي عثمان.

اختُلِف في سنة ميلاده، ولكن أشهر الأقوال أنه وُلِد بالبصرة سنة 160هـ، أما سنة وفاته فلم يُختلف فيها، فقد كانت بالبصرة سنة 255 هـ .‏

كان يُلقَّب بالحدَقِي؛ وذلك لبروز واضح في حدقتيه، ولكنَّ اللقب الذي عُرِف واشتهر به أكثر، وبه ذاع صيته وعمَّ الآفاق هو (الجاحظ)؛ وذلك لجحوظ عينيه، أي بروز حدقتيهما، وأيضًا له طرف كثيرة مع لقبه، منها:أنه قال:
أتيتُ منـزلَ صديقٍ لي، فطرقتُ البابَ، فخرجتْ إليَّ جاريةٌ سنديَّةٌ (أعجميَّة)، فقلت :‏قولي لسيِّدك: الجاحظ بالباب.‏
فقالت: أقول الجَاحِد بالباب؟ "على حسب نطقها".
فقلت: لا، قولي: الحدَقِيُّ بالباب.‏
فقالت: أقول الْحَلَقِيُّ بالباب؟‏
فقلت: لا تقولي شيئًا، ورجعت!!

وقد حاول مرارًا أن يمحو هذا اللقب (الجاحظ) الذي كان يُنفِّر البعض منه، فكان يتبرَّم بمن يدعوه به، ويجهد نفسه لكي يقرِّر في أذهان الناس أن اسمه "عمرو"، وأنه الاسم المحبب له، وأنه يفضِّل أن يُدْعَى بهذا الاسم، ولكنه لم يفلح في إقناع الآخرين ليكفوا عن إطلاق لقب الجاحظ عليه.

تضاربت الآراء في تحديد أصله؛ فهناك من ذهب إلى أنَّه عربيٌ صِرفٌ من بني كنانة، ولذلك نُعِتَ بالكناني، وذهب آخرون إلى أنَّه من الموالي، أعجميُّ الأصل، ومهما يكن من أمر فيكفي أن ولاءَه للعروبة أشدُّ وضوحًا من شمس الظهيرة، وعلى ذلك فليس ثمة تأثير يحدثه الأصل الذي يرجع إليه الجاحظ.

كان الجاحظ دميمًا قبيحًا، ولكنّه لم يضق ذرعًا بدمامته، فكان خفيف الظل، عَذِب اللسان، قوي الحُجة، استطاع بصفاء قلبه وروحه المرحة أن يُجَمِّل بشاعته، ويزيل ما في نفسه من دمامة إلى جمال فاتن أخَّاذ، كما أن دمامته لم تؤثر على إبداعه وتفوقه، فقد عاش جلَّ عمره متفائلاً، بل ساعد الكثيرين في طرد السآمة التي حلَّت بهم، وذلك بما يتمتع به من براعة في الأسلوب، وثقافة عالية في كافَّة المجالات، فصار محبوبًا لدى جميع أفراد عصره، وفرض احترامه على الجميع بسبب فصاحته، ونصاعة بيانه.

ليس ذلك فحسب، بل لقد وصل به الأمر إلى أن يسخر من نفسه، ويتحدَّث عن قبحه ودمامته، وقصر قامته بأسلوب طريف جاذب، وهذا نجده في القصص والطرف التي ترد في كثير من مؤلفاته.

فقد قال: ما أخجلني أحدٌ إلا امرأتان، رأيت إحداهما، وكانت طويلة القامة، وكنتُ على طعام، فأردتُ أن أمازحها، فقلت لها: انـزلي كُلِي معنا، فقالت: بل اصعد أنت حَتَّى ترى الدنيا!!‏

وأما الأخرى فإنَّها أتتني وأنا على باب داري، فقالت: لي إليك حاجة، وأريد أن تمشي معي، فذهبتُ معها إلى أن أتت بي إلى صائغ، فقالت له: مثل هذا، وانصرفتْ!!. فسألته عن قولها، فقال: إنَّها أتت إليَّ بخاتم، وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان! فقلت لها: ما رأيت الشَّيطان قط!! فأتت بك، وقالت مثل هذا!.

كما أنه أحيانًا يسخر حتى في أمور لا تتحمل السخرية، وذلك لأن السخرية صارت سجية له..
قال :سألني بعضهم كتابًا بالوصيَّة إلى بعض أصحابي، فكتبتُ لـه رقعةً وختمتها، فلما خرج الرجل من عندي فضَّها، فإذا فيها: "كتابي إليك مع من لا أعرفه، ولا أُوْجِب حقَّه، فإن قضيتَ حاجته لم أحمدك، وإن رددتَه لم أذمَّك».
فرجع الرجل إليَّ فقلت له: كأنك فضضت الورقة؟
فقال: نعم.‏
فقلت: لا يضيرك ما فيها؛ فإنه علامة لي إذا أردتُ العناية بشخص.‏
فقال الرجل: قطع الله يديك ورجليك ولعنك.‏
فقلت: ما هذا الذي تقول؟!‏
فقال: هذا علامة لي إذا أردتُ أن أشكر شخصًا.

# آثاره العلمـية:
كانت لدى الجاحظ روح المعلِّم الذي يوصل علمه ومعارفه إلى قارئه وسامعه بطريقة فنيَّة سلسة ممتعة، محلاة بالطرافة، وحقَّ له أن يكون كذلك؛ فقد كان للجاحظ منذ صغره اهتمام واضحٌ بالقراءة والمطالعة، والانكباب على صفحات الكتب، مما حدا بأمه أن تتهكم به،
حيث يُروى أنَّ أمَّه ضاقت بانهماكه في الدَّرس والقراءة، فطلب منها يومًا طعامًا، فجاءته بطبق مليءٍ بكراريس كانت لديه، وقالت له: ليس عندي من طعام سوى هذه الكراريس. ولكن الجاحظ -على صغر سنِّه- لم يترك الأمر يمرَّ من دون ردٍّ، وكان الردُّ تهكميًّا أيضًا. فقد ذهب إلى الجامع مغتمًّا، ولقيه مويس بن عمران أحد رفاقه الأثرياء في الدَّرس. فسأله: ما شأنك؟ فحدَّثه بحديث أمِّه. فأخذه إلى منـزله، وأعطاه خمسين دينارًا، فأخذها فِرحًا، ودخل السُّوق، واشترى الدَّقيق، وحمله الحمَّالون إلى داره، وسألته أمُّه: من أين لك هذا؟! فقال لها: من الكراريس التي قدَّمتِها إليَّ!.‏

تتلمذ الجاحظ على أيدي كثيرٍ من المعلمين العلماء؛ لأنه يرى أن أخذ العلم من الكِتاب دون معلِّم أمر مذموم لا يأتي بنتائج مرجوة، فقد أخذ علم اللغة العربية وآدابها على أبي عبيدة صاحب كتاب (عيون الأخبار)، والأصمعي الراوية المشهور صاحب (الأصمعيَّات)، وأبي زيد الأنصاري، ودرس النحو على الأخفش، وعِلْم الكلام على يد إبراهيم النظام البصري.

لقد أحصى ابن النديم (صاحب الفهرست) آثار الجاحظ، حيث وصلت لديه ما يناهز مئة وواحدًا وعشرين أثرًا .وتبعه في ذلك ياقوت الحموي (صاحب معجم الأدباء)، فأوصلها إلى نحو مئةٍ وثلاثةٍ وعشرين أثرًا. وكلها مؤلفات في غاية الأهمية، مليئة بشتى المعارف والعلوم والحِكَم..
ولندلل على مكانة كتب الجاحظ يكفينا أن نبرهن بقول خصمٍ لدودٍ للجاحظ، وهو المسعودي، فقد قال في كتابه (مروج الذهب) ناعتًا كتب الجاحظ: «وكتب الجاحظ -مع انحرافه المشهور - تجلو صدأ الأذهان، وتكشف واضح البرهان، لأنه نَظَمَهَا أحسن نظم، ووصفها أحسن وصف، وكساها من كلامه أجزل لفظ، وكان إذا تخوَّف مَلَلَ القارئ، وسآمة السامع، خرج من جدٍّ إلى هزلٍ، ومن حكمةٍ بليغةٍ إلى نادرة طريفة" فهذه الخاصية التي تطرَّق إليها المسعودي في مؤلفات الجاحظ هي أسلوب الاستطراد الذي لازم مؤلفات الجاحظ، وهي وسيلة نصح بها كثير من التربويين في عصرنا الحاضر، وأوصوا بها؛ لما وجدوه فيها من إيصال المعلومة للطالب بطريقة سلسة، لا سيما في المناهج التي تتسم بجفاف الأسلوب.

كما أوصى الجاحظ الكتَّاب لينتهجوا منهجًا سهلاً في كتاباتهم، فقال: ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي اللسان، عَذِب ينابيع البيان، إذا حاور سدَّد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلِّم العامة بكلام الخاصة، ولا الخاصة بكلام العامة.

ومن أشعاره:
يطيب العيش أن تلقى حليمًا .... غذاه العلم والرأي المصيبُ
ليكشف عنك حيلة كل ريب .... وفضل العلم يعرفه الأريبُ
سقام الحرص ليس له شفاء .... وداء البخل ليس له طبيبُ

# ومن حِكَمِه:
إنَّ العقل والهوى ضدان، فقَرِينُ العقل التوفيق، وقَرِينُ الهوى الخذلان، والنفسُ طالبةٌ، فبأيهما ظَفِرتْ كانت في حِزْبه.
ومنها: إن القلوب أوعية، والعقولَ معادن، فما في الوعاء يَنفد إذا لم يُمدّه المعدن.
ومنها: إن احتمال الصبر على لَذع الغَضب أهونُ من إطفائه بالشَّتم والقَذع.

# ومن أشهر مؤلفاته:
  1. البخلاء: وهو من كتب الجاحظ التي حظيت بمكانة سامية، وانتشر انتشارًا واسعًا، وذلك للمادة النفيسة التي يضمها بين دفتيه، فهو دراسة أدبية نقدية فكهة جمع فيها الجاحظ أخبار البخلاء في عصره .
  2. البيان والتبيين: وهو إِمَام كتب الجاحظ، جمع فيه الجاحظ بين علوم اللغة والبلاغة والأدب، والمنطق، والتاريخ، وهو مرجع أدبي مهم، يرجع إليه الباحثون لينهلوا من معينه العذِب.
  3. الحيوان: وهو أكثر كتب الجاحظ شمولاً، حيث لم يتناول فيه موضوع الحيوان فحسب، بل تطرق فيه لكثير من المسائل المتعلقة بالطبيعة والفلسفة والطب والسياسة والجغرافيا، وبعض المسائل الفقهية، هذا بالإضافة إلى اللغة والأدب والفكاهة والنوادر التي لا يخلو منها مُؤلَّف من مؤلفات الجاحظ.
كما أن له مؤلفات عديدة يضيق المقام بذكرها.
منها: نظم القرآن.
ومنها: البرصان والعرجان والعميان والحولان.
ومنها: المحاسن والأضداد.
وكل هذا غيض من فيض تزخر به مكتبة الجاحظ من مؤلفاته التي كانت –وستظل- نبراسًا يستنير به سالكُ طريقِ العلم والأدب .

[ توضيح : النص بالأعلى منقول للفائدة ]

===========================

قلت : لمن أراد أن يقتني كتب الجاحظ فإن أفضل من اعتنى بها تحقيقاً وتعليقاً فهو علامة عصرة في التحقيق العلمي (عبدالسلام هارون)
فله مجموعة محققه بعنوان [ مجموعة رسائل ومؤلفات الجاحظ ] مطبوعة، وله مختصر جميل لكتاب ( الحيوان ) أنصح بقراءته قبل قراءة الكتاب الأم
 

ولد الجابري

مشرف سابق
إنضم
28 أكتوبر 2007
المشاركات
7,361
مستوى التفاعل
99
النقاط
48
الإقامة
ارض الله الواسعة
الف شكر اخي الحبيب على هذا الموضوع الراقي

وبصراحة هناك بيت كنت احفظه ولكني لم اعلم انه للجاحظ الا الان وهو
سقام الحرص ليس له شفاء .... وداء البخل ليس له طبيبُ

اكرر شكري لك اخي الحبيب


وتقبل مروري
 

صقر تهامة

مراقب منتديات بني مالك
إنضم
11 مايو 2007
المشاركات
14,149
مستوى التفاعل
172
النقاط
63
الإقامة
الجنوب
الموقع الالكتروني
www.banimalk.net
موضوع رائع كروعة تاريخ الجاحظ
تجولت في بستانه الفسيح فوجدت مالذ وطاب وما احسن مجالسة الادباء او القراءة لهم .

شكرا
 

أبومهند

مراقب منتديات التعليم والتطوير
إنضم
21 أغسطس 2007
المشاركات
10,826
مستوى التفاعل
67
النقاط
48
الجاحظ : كاتب وأديب وحكيم أيضًا , بل ومدرسة من مدارس الأسلوب في أدبنا العربي.
وسبحان الله , كيف استطاع الجاحظ أن يجمع بين دمامته , وقدرته على التخفيف من كآبة الآخرين؟!
ومن أراد أن يؤسس لنفسه أو لأبنائه وطلابه لكي يصنع منهم أدباء أو يطور ملكاتهم الإبداعية فليدلهم على مكتبة الجاحظ ومدرسته.,,

ولك أخي الحبيب " أبي الإسلام " فائق الشكر وجزيل التقدير على هذا الموضوع الجميل ولشائق عن أحد أعلام الأدب العربي .,,
 

احسان الظن

مشرف سابق
إنضم
18 مارس 2008
المشاركات
6,598
مستوى التفاعل
218
النقاط
63
وأنا لا أبيح لأحد الرد إلا إذا قرأ الموضوع كاملاً

جزاك الله خير رغم معرفتي بسيرة الجاحظ إلا أني قرأته مرتين
لاتمكن من الرد واشكرك على حسن التنظيم والعرض
فالشكر والتقدير لك... بارك الله فيك

 

أسيرالشوق

المراقب العام
إنضم
18 أكتوبر 2007
المشاركات
55,084
مستوى التفاعل
48
النقاط
48
بارك الله فيك
شكراً لك على المشاركة
 
أعلى