حـلـــم الأعـرج ..!

أبو نواف الفقيه

مشرف سابق
إنضم
30 نوفمبر 2007
المشاركات
6,161
مستوى التفاعل
186
النقاط
63

جلس الأعرج على حافة النهر يرقب الشاطئ البعيد, تري من يفوز اليوم بالسباق ويكون أول من يصل إلى الشاطئ ؟



منذ سنوات طوال وهو يأتي إلى هنا, يقعد في عين المكان يتأمل الصغار والرجال وهم يسبحون بالنهر في مهارة الأسماك.



ظل يحلم في نومه ويقظته أن يسبح مثلهم ويغوص في أعماق النهر بيد أنه خشي من عرجته أن تخذله ,وطفق أهل القرية يداعبونه ويسخرون منه أحيانا:



_ هلم يا أعرج انزل معنا إلى النهر..



وكان يغلبه الحياء فيبتسم



ذات يوم دفعه الصبيان ليسقط في ماء النهر.. صعقه الخوف، وظل يصرخ ويصرخ، إلى أن حملوه إلى الشاطئ .



بالأمس وهو خارج من المسجد داعبه شيخ المسجد



-يا أعرج شارك في السباق، وكلنا سنناصرك!



تبسَّم الأعرج وضحك الناس, هم لا يعلمون أن مفاجأة مزلزلة في انتظارهم ,لقد مرت بالنهر مياه كثيرة كما يقولون، ولم يعد أعرج الأمس أعرج اليوم ,سيفاجئهم بما لا يخطر على قلوبهم..



صديق طفولته هو نقطة التحول.. حاصَرَهُ بالإلحاح كي ينزل إلى النهر.. لم يستسلم لممانعة الأعرج وصَدِّه.. أو يقتنع بحججه.



كان يشعر بحلم الأعرج في السباحة بالنهر.. لكنه يخشي الفشل، أو أن يراه الناس متعثرا على صفحة النهر بعرجته.. عَزَمَ على أن يحقق لصديق الطفولة حُلُمَه.. عرض عليه أن ينزل إلى النهر تحت ستار الليل، ويكون الأمر سرًّا بينهما؛ ليحميه من أعين المتلصصين الساخرين!



مزق الأعرج شرنقة الخوف بجهد جهيد.. وكاد الخوف أن يقتله.. لَمَّا لامست إقدامُه الماء اعترته رهبهُ النهر..خاف أن يفشل فيغرق حلمه في قاع النهر.. لكنَّ صديقه ظل يصب في أذنيه إكسير الثقة:



-استعن بالله ولا تعجز!



ظلت البداية متعثرة، كأنه ينقش على الماء، ووسوست له نفسه أن يغادر النهر إلى غير رجعة، لولا حياؤه من صديقه، الذي أبى جسده إلا أن يغوص كُلَّما بسطه على سطح البحيرة، كأنه عمله معدنية ألقاها طفل في الماء!



وكان أول الغيث أن طفا جسده على وجه النهر.. صرخ صرخةَ ابتهاج طفولية.. وبعدها تتابعت قطرات الغيث، وصنعت أمواجًا من التوفيق، تَدْفَعُهُ قُدُمًا.. يومًا بعد يوم..



ومضت الشهور.. وأحب الأعرج النهر، كما أحب الليل؛ للتَّسَلُّل إلى النهر.. وكلما أرخى الليل سدوله يلقي بجسده في الماء لساعات طوال.. يسبح ويغوص.. حتى أصبحت السباحة عنده أيسر وأحبّ من المشي على اليابسة!



لم يمنعه من النهر بَرْدٌ قارص، ولا ظلام دامس، ولا تيار دافق..



وذات مساء برقت في نفسه خاطرة مجنونة: لمَ لا يشارك في السباق ؟



ويتمخض عنها ما هو أبعد جنونًا: ولما لا أفوز ؟!



لم تكن المشاركة في السباق أو الفوز به مراد الأعرج لذاته، بل أن تولد له إرادةٌ ينتصر بها على خوفه وضعفه وعجزه..أن يطرد عقدة النقص من دهاليز نفسه ..فالأمر عنده أكبر من مسابقة سباحة يفوز بها.



واليوم هو ثاني أيام عيد الأضحى..إنه يوم السباحة كما جرت عادة أهل القرية كل عام..



احتشدت القرية كلها على ضفاف النهر؛ أطفال، وشباب، وكهول، حتى النساء..الجميع يشهدون السباق من فوق أسطح البيوت.



تبسم : اليوم يومك يا أعرج؟!



اصطف المتسابقون في صف طويل على حافة النهر، تقدمةً لانطلاق السباق.. خلع الأعرج ملابسه، وبرز في لباس السباحة.. فضحكت الحشود، وتغامزت، وتبادلت التندر والسخرية على مشهد الأعرج في ثياب السباق.. وزادت الهمهمة والصيحات والهتاف لَمَّا وقف الأعرج في صف المتسابقين.. وظنوا أنه مَوْقِفُ تَفَكُّهٍ وممازحة من الأعرج، يضاهي جو العيد!



وانطلق السباق.. ولم ينزل الأعرج إلى الماء.. بل صعد إلى أعلى الجرف، وقفز إلى النهر، وبهتت الحشود، وانفجر القلق خوفًا على الأعرج الذي غاص في باطن النهر، وشرع بعضهم في خلع ملابسهم لإنقاذ الأعرج، لولا أنهم رأوه طافيًا على السطح يسبح بين المتسابقين!



لم يصدق الناس أعينهم، وعلى قدر دهشتهم كان فرحهم حُبًّا للأعرج؛ طيب القلب.. أعرضت الأعين عن المتسابقين، وجحظت نحو الأعرج.. وتصاعَدَ الهتاف له على طول الشاطئ، كأنه بطل أسطوري هبط من العالم الآخر..



تفجرت عزيمة الأعرج، وتوهجت إرادته، وطفق يضرب الماء بكل ذرة من قواه، وجعل يشق الماء كزورق سريع.. وخلف المتسابقين وراءه جميعا، سوى صديق الطفولة الذي ظل يسبح معه يدًا بيدٍ، وذراعًا بزراع!



اقترب الشاطئ، وأشرف السباق على النهاية.. وتعَجَّبَ الأعرج من نفسه : أيُّ قوةٍ هذه التي تملكته اليوم، وتلبَّسَتْ بدنَه ونفسه ؟!



أيُّ قوةٍ ركزها الله في الإنسان تدفعه عند التحدي والخوف والخطر ؟



إنها لحظة الفوز بالسباق.. والانتصار على ما مضى من مخاوف وعجز.. والانطلاق إلى حياة أخرى.. فالفوز لا يمثل سوى مفتاحٍ للولوج إلى حياة جادة، والنهوض على قدمي الإرادة والعزم.. فالأمر عنده أكبر من فوزٍ رمزيٍّ في سباق لَهْوٍ.



ولكن.. هل يزيد الآن من قوة اندفاعه، ويُخَلِّف صديقَ الطفولة وراءه؟! أيفوز بالسباق دون معلمه، وصاحب الفضل الذي جعل الله مبعث بهجته وسعادته وميلاد إرادته وتحقيق حلمه على يديه؟!



أيجزيه جزاء سنمار، ويحرمه شرف الفوز الذي يناله كُلَّ عام؟!



عوت صيحة من داخله : نفسي ..نفسي..الحشود ستحملك وتهتف لك.. تاج الفوز على رأسك ..فُرْصَتُك قد لا تلوح لك تارةً أخرى!



لا ..لا..اليوم يوم الوفاء.. لن يشتري فرحته بحرمان صديقه.. أبطأ من تَقَدُّمِه وهو على أمتار من الشاطئ، والحشود وتهتف:



هلم يا أعرج..هيا يا أعرج .. تقدم يا أعرج!



لكنه أَبَى .. لا .. لا.. ليس هذا غايتي من السباق..


تَرَكَ تَيَّارَ الماء يأخذه بعيدًا؛ لِيُتَوَّجَ صديق الطفولة على رأس السباق .
 

الـ 1000 ــارس

مشرف سابق
إنضم
29 أغسطس 2007
المشاركات
8,398
مستوى التفاعل
55
النقاط
48
الإقامة
ارض الحرمين
الله ياحصن خريص يتجدد الابداع
التضحية هي البعد عن الانانية وهذا ما تجسد في نقلك لهذه القصة
اشكر لك تواجدك وننتظر منك المزيد
 

سعود بن عبدالله

مراقب سابق
إنضم
13 مايو 2007
المشاركات
26,544
مستوى التفاعل
157
النقاط
63
الإقامة
زمن بلا هوية ..

.
,/




قرأتقصة سابقة الجمتني عن التعليق
ولعلها قد شتت ما بذهني من افكار
فلم اشاء ان اخرج من هنا هكذا
دونما ترك اثر



اشكرك ايها القدير
واعذر مروري هكذا باهتا ..




,/



33978_01195975150.gif


 
أعلى