والغربة يا أمي

إنضم
31 مارس 2011
المشاركات
44
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
الطائف
1_20081212_1426.jpg


عهود حجازي

تخنقنا المُدُن.. تغتال حروفنا.. تقتاتُ على أرواحنا !


***

ولدتُ في جدة، ونشأتُ في الطائف، وتعلمتُ الحياةَ في مكة.
كنتُ وأنا أطوف بالمدن أمرُّ على خلايايَ، فأجدها ريانة بالحب، شغوفة بالعطاء، سيّالةَ التفكير، عميقة التأمل.
كان الترحال يصنعني، وينكأ جراحاتي، ويشد أزري. وكنتُ كلما ولجتُ مدينة جديدة أجدني كبرعم ليّن يتخفى من الغرباء خوفًا أن يدهسوه، ولا ألبث أن أتصلّب، ويشتدّ عودي، فأزهر، وأخرج قوية تتبعني الشمس.
هكذا كنتُ، وكم أذكر الليالي التي أغرقتها بدموعي حين تعصف بقلبي الغربة، كنتُ صغيرة على تقبّل الوجوه الجديدة. وكانت الوجوه الجديدة ذاتها مفترسة، تتشرب الملامح والتحركات. لم يرحمني أحد من الأسئلة. كنتُ أحفظ سيرتي الذاتية عن ظهر قلب لأصبّها في الآذان كلما سُئلتُ، وكنتُ أستبقي لنفسي أشياء أكثر أهميّة من التي قلتُها، لذا فزتُ بشخصية غامضة، أحرّك بها القلوب، ولا تحرّكني !


***

الغربة يا أمي..!
وماذا ترك الصمتُ للحديث، وقد أكلَت الغربة قلبي، وأصبح التغرّب نفقًا إلى الهروب كلما مللت الأماكن. أصبحتُ أطلبه وإن كان يؤذيني، وأحرص عليه كما تحرصين علينا من أسباب الدنيا.
أليست الأماكن أجزاء حقيقية من ذاكرة المرء، يعود إليها بذهنه، ويعيشها بكل تفاصيلها، كونها صنعته وأهدته صنيعها !


***

لا زلتُ أذكر بيتنا القديم، بيتنا الذي لم نمكث فيه سوى ست سنوات، اتساعه، وأثاثه البسيط، القطة التي وجدناها تلد أسفل المقعد المتصدّر لحجرة الضيوف. ابنة الجيران التي كنا ننادي اسمها من أسفل السلم فتهرع لتلبي النداء ولو كانت نائمة !. الحياة الصعبة في الطائف، حيث كنا نستيقظ قبل الفجر، لنعد أنفسنا للمدرسة، نفطر سريعًا والنوم يقتل أجفاننا، ثم نصلي، لنلحق بالسائق المتبرّم – دومًا – ونصل قبل أن ينبلج النور. والبرد يمشي في العظام مشية كريهة !


***

ثم ذلك المنزل الذي انتقلنا إليه لعامٍ واحد. وزرعنا الورد في فِنائه الأنيق. كان منزلاً عصريًا لرجلٍ ثري، لكنه ثُلم بالجان والعفاريت، فلا أذكر أني نمتُ فيه هانئة قط !.
أذكر أني كنتُ بالصف الرابع الابتدائي، وكنتُ أنام ولما أكتب فروضي المدرسية بعد، فإن اقترب الفجر استيقظت قبل أمي وأضأت الغرفة لأكتب سريعًا قبل أن تراني فأتلقى اللوم والعقاب. ولم تك أختي الكبرى لتشعر بهذا الضوء الخافت إلا ما ندر. فتوبخني، وأغلقه ريثما تستعيد أحلامها، وأكمل مهمتي العصيبة هذه حتى أنجز الفروض كلها ثم أتظاهر بالنوم إذا أتت أمي، وفي قلبي حسرة على الرقاد.


***

انتقلنا بعد ذلك إلى مكة.
مكة التي أنشأتني. سحَبَت من خلاياي جُبنها، جرّعتني حكم الحياة تجربة ودمعًا، مكة المعلمة الكبيرة التي قدمتني للحياة لأجابهها، ولم تدللني كما تدلل المدن أبناءها. ربما لأنها حكيمة، ولأنها قديمة، لأنها مقدسة جدًا، فلا تضم بين لابتيها إلا مُريدها جدًا !
كانت مكة أذني وعيني، وقلبي، وأنا.
مكة الدافئة شتاءً، المتّقدة صيفًا، الحنونة الآسرة المتحدية بأبنائها مدن العالم كله. المجاهدة بشوارعها المتفرعة، وجبالها اللامتناهية، الساكنة رغم السفر في الأفئدة، فلا تجد لمكة ابنًا عصيًا !


***

في مكة تعلمت حبَّ الأشياء، حبّ الأشخاص، تعلمت أن أكون عنيدة، وأن أكافح كثيرًا. إنّ حرارة مكة تُعلّم الناس الصمود.
وفي مكة أنهيت تعليمي الجامعي، وولجت عالم الكتابة بأقلامه، بانفعالاته، بأناسه، بما يهديه من حيرة وشوق ، وفرح !
كنت آنذاك ندية العمر، مخضرة الأمنيات، سهلة الالتئام. وقضيتُ سنيّ طفولتي ومراهقتي وأنا أطعم روحي كتبًا وأحلامًا. حتى إذا اشتد عودي وطرقت باب العشرين إذ بأحلامي تنهار على رأسي، وفوقها كتبي، والناس، ومالم يخطر لي ببال.


***

كنا في مكة في بيتٍ مزدحم، أربعة إخوة في حجرة واحدة.
وكنّا نذاكر معًا، ونتشاجر على أن أحدنا رفع صوته أكثر من المتفق عليه وهو يردد مقاطع الحفظ فتسبب في الشوشرة على الآخرين !
كما كنا نتضايق عند النوم، فبعضنا ينام قبل الآخر، وبعضنا توقظه الهمسة. والضوء يتسلط على أعين النائمين أولاً فيقلقهم. والتكييف حائر بيننا، فأخي يستغل الفرصة كي يطفئه، وأختي تضعه على درجة التجمد، بينا أحتفظ بغطائين خفيف وثقيل لئلا أتعب نفسي.
وكان أثاث المنزل مهترئًا قديمًا، لم يك في ثقافة والديْ أن التجديد يقود إلى التغيير والتنفس، قضينا خمسة عشر عامًا كاملة بنفس الأثاث واللوحات والأرضيات التي انتقلت معنا من الطائف. ومع ذلك كنا سعداء.. تلك السعادة التي ينشدها الناس في المنازل المتسعة الراقية فلا يجدوها. علمتُ ذلك حين تغيرت الدنيا بعد عشر سنوات فقط وأصبحنا من أصحاب الدّور. لم نسعد قط كسعادتنا في ذلك المنزل المكيّ القديم.


***

قدمتُ إلى مكة، وكانت لي كلّ شيء، فغادرتها – مرغمة – بعد سبعة عشر عامًا وفي قلبي غصص تبكيني إذا ماذكرتها.. ومن يجرؤ على النسيان !


***

أذكر غربةً متهورةً قدمتُ إليها نفسي لأربعين يوما في جنوب القارة الأفريقية. لم أحتمل البقاء، ولم أسعد به. كان الشيء القاهر في الأمر أنّ الرغبة في العودة ليست بسهولة استقلال سيارة والسير في خط سريع لأقل من ساعة. المسافات تتدخل في جعل الغربة أليفة أو ذات أنياب. كنت في تلك الأيام أشعر بالعجز، والعجز في الغربة من أسوأ الأعداء.. إطلاقًا !


***

جدة مجددًا.
مدينة الأحلام. المدينة التي لا تنام !
هذه المرة كنتُ وحدي. لا أمي هنا، ولا والدي، لا إخوتي، ولا روحٌ في هذا المنزل الساكن الصغير.
هل ذقتُ في حياتي غربة بخيلة كهذه الغربة ؟
كنتُ أبحث عني، فإن يئستُ طلبتُ أمي على الهاتف، فإن أعرض الهاتف، انتظرتُ من مكة طيفًا، أو رائحة تشبهها، فإن اعتزلني الجميع طويتُ أوراقي، وشرعتُ في الكتابة حتى الصباح.
كنتُ أجلد نفسي بالأسئلة، لم أرحم ضعفي في هذه الغربة المزدوجة، ولم أتهرب من الإجابات أمامها، فكانت تضعف أكثر. فلأننا نكره الحقائق، ونرجوها أن تختبئ عنا أحيانًا.
جدة. المدينة العروس. المدينة الشابة. المدللة. الساهرة. الجميلة. المترفة. المتسعة. الأنيقة. الناعسة عند الغروب، المزدحمة وقت الشروق. الضاحكة وقت السحر.
هل زرتَ جدة قط ؟
إن جدة تحرك القلب باتجاه الحب، تصنع الحب، تقدمه إليك على طبق من ذهب.
جدة تحتفي بالعاشقين، فهي مدينة مُرهَفَة صنِعت للقلوب. لكنها لا تأتي بأسباب السعادة.
في جدة أرتدي قناعًا. أتحدث بمثالية، أتزين أمام نفسي، وأقرأ كثيرًا، وأبكي كثيرًا.
أما ملّ البحر بكاء المرتادين !


***

أواه يا أمي. آذتنا الغربة، نزعت قلوبنا جيدًا، زرعت فينا الصلابة، غرست فينا الجمود، أرهقتنا حينًا، حتى انصهرنا، ثم أعادت صب احتراقاتنا في قوالب القوة، فما عدنا نأبه لشيء.
وهل يعيش الراحة ميت القلب !


***

أتيتُ مكة أحبو، وعدتُ إليها حبوًا. أقبّل قدمي أمي، وأتمرغ في دعوات أبي. أستنشق روائح مكة من حجرات بيتنا، أتشربها، وأخبئ عن قلبي استعدادي للرحيل..
 
أعلى