كاهنَة بني سعْد
نذر عبد المطلب بن هاشم أنَّه متى رُزِق عشرة أولاد ذكوراً ورآهم بين يديه رجالاًَ أن ينحر أحدهم عند الكعبة شكراً لربِّهِ
فلما استكمل ولده العَدد ، وصاروا من أظهر العُدد ، قال لهم : يا بني ، كنتُ قد نذرت نذراً علمتموه قبل اليوم ، فما تقولون :
قالوا : الأمر لك وإليك ، ونحن بين يديك ! فقال : لينطلق كل واحدٍ منكم غلى قِدْحِه ، وليكتب عليه اسمه ، ففعلوا ثمّ أتوه بالقداح فأخذها .
ثُم دعا بالأمين الذي يضرب القداح ، فدفع إليهم قداحهم ، وقال : حرِّك ولا تعجَل .
وكان أحبّ ولد عبد المطلب إليه عبدالله : فضرب صاحب القداح السهم فخرج على عبد الله ، فأخذ عبد المطلب الشفرة وأتى بعبد الله وأضجعه بين إسافٍ ونائلة .
وهمّ بذبحه فوثب إليه ابنه أبو طالب ، وكان أخا عبد الله لأبيه وأمه وأمسك بيده عن أخيه . فلمَّا سمعت بنو مخزوم - وكانوا أخواله - وثبوا على عبد المطلب فقالوا : يا أبا الحارث ، إنَّا لا نسلم إليك ابن أختنا للذبح ، فاذبح من شئت من ولدك غيره !
فقال : إنّي نذرت نذراً ، وقد خرج القدح ، ولا بد من ذبحه ! قالوا : كلا ! لا يكون ذلك أبداً وفينا روح ، وإنا لنفديه بجميع أموالنا من طارفٍ وتليد .
ثمّ وثبَ الساداتُ من قريشٍ إلى عبد المطلب فقالوا : يا أبا الحارث إن هذا الذي عزمت عليه لعظيم ، وإنك إن ذبحت ابنك لم تتهنأ بالعيش من بعده ، ولكن تثبَّت حتى نصير معك إلى كاهنة بني سعد ، فما أمرتك من شيءٍ فامتثله .
فقال عبد المطلب : لكم ذلك.
ثم خرج في جماعة من بني مخزوم نحو الشام إلى الكاهنة ، فلما دخلوا عليها أخبرها عبدالمطلب بما عزم عليه من ذبح ولده . فقالت الكاهنة : انصرفوا عني اليوم ، فانصرفوا .
وعادوا من الغد ، فقالت : كم دية الرجل عندكم ؟ قالوا : عشر من الإبل . قالت : فارجعوا إلى بلدكم وقرّبوا هذا الغلام الذي عزمتم على ذبحه وقدّموا معه عشراً من الإبل ، ثمّ اضربوا عليه وعلى الإبل القداح ، فإن خرج القِدْح على الإبل فاذبحوها ، وإن خرج على صاحبكم فزيدوا على الإبل عشراً حتى يرضى ربكم .
فانصرف القوم إلى مكّة ، وأقبلوا يقولون : يا أبا الحارث إن لك في إبراهيم إسوة حسنة ، فقد علمت ما كان من عزمه على ذبح ابنه إسماعيل وأنت سيّد ولد إسماعيل ، فقدِّم مالك دون ولدِك .
فلمَّا أصبح عبد المطلب قرَّب عبد الله وعشراً من الإبل ، ثُم دعا بأمين القداح وجعل لابنه قِدحاً ، وقال : اضرب ولا تعجل فخرج القدح على غبد اله ، فجعلها عشرين ، فضرب فخرج على عبد الله ، فجعلها ثلاثين فضرب فخرج القدح على عبد الله ، فجعلها أربعين ،... وكلما خرج القدح على ابنه زادها عشراً حتى جعلها مائة فخرج القدح على الإبل ، فكبَّر عبد الله وكبَّرت قريش وقالت : يا أبا الحارث ، إنه قد رضي ربُّك وقد ابنك من الذبْح .
فقال لا والله حتى أضرب عليه ثلاثاً ! فضرب على الثانية فخرج على الإبل ، فضرب الثالثة فخرج على الإبل فعلِم عبدُالمطلب أنه قد بلغ رضا ربه في فداء ابنه .
فقرِّبت الإبل ، وهي مائة من جِلة إبل عبد المطلب ، فنحرت كلها فداءً لعبد الله ، وتركت في مواضعها ، لا يصُد أحدٌ عنها ينتابها ممّن دبّ ودرج .
وانصرف عبدالمطلب بابنه عبدالله فرحاً .
[يتبع]