حكى الشَّعْبِيُّ قال: أنفذني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم، فلما وصلت إليه جعل لا يسأل عني شيء إلا أجبته، وكانت الرسل لا تطيل الإقامة عنده، فحبسني أياماً كثيرة حتى استحثثت خروجي، فلما أردت الانصراف قال لي : أمن أهل بيت المملكة أنت؟ قلت: لا، ولكني رجل من العرب في الجملة، فهمس بشيء، فدُفعت إلي رقعة، وقال لي: إذا أديت الرسائل إلى صاحبك فأوصل إليه هذه الرقعة، قال: فأديت الرسائل عند وصولي إلى عبد الملك وأُنسيت الرقعة، فلما صرت في بعض الدار أريد الخروج تذكرتها، فرجعت وأوصلتها إليه، فلما قرأها قال: أقال لك شيئاً قبل أن يدفعها إليك؟ قلت: نعم،وخبرته بسؤالي وجوابي، ثم خرجت من عند عبد الملك، فلما بلغت الباب رددت، فلما مثلتبين يديه قال: أتدري ما في الرقعة؟ قلت: لا، قال: اقرأها، فقرأته، وإذا فيها: عجبت من قوم فيهم مثل هذا كيف ملكوا غيره، فقلت : والله لو علمت هذا ما حملتها، وإنما قالهذا لأنه لم يرك. قال: أفتدري لم كتبها؟ قلت: لا، قال: حسدني عليك وأراد أن يغريني بقتلك؛ قال: فتأدى ذلك إلى ملك الروم فقال : ما أردت إلا ما قال.
********************************
قعد المهدي قعودا عامّا للناس, فدخل رجل, وفي يده نعل ملفوفة في منديل, فقال:
يا أمير المؤمنين, هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أهديتها لك.
فقال: هاتها.
فدفعها إليه, فقبّل باطنها ووضعها على عينيه وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم.
فلما أخذها وانصرف قال لجلسائه:
أترون أني أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يرها فضلا عن أن يكون لبسها؟ ولو كذبناه قال للناس: " أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فردّها عليّ" وكام من يصدقه أكثر ممن يدفع خبره, اذ كان من شأن العامّة ميلها إلى أشكالها والنصرة للضعيف على القوي, وان كان ظالما اشترينا لسانه وقبلنا هديّته وصدّقنا قوله, ورأينا الذي فعلنا أنجح وأرجح
****************************
وذكر محمد بن عبد الملك الهمداني في تاريخه أنه بلغ الى عضد الدولة خبر قوم من الأكراد يقطعون الطريق, ويقيمون في جبال شاقة, فلا يقدر عليهم, فاستدعى أحد التجار ودفع اليه بغلا عليه صندوقان فيهما حلوى قد شيبت بالسم, وأكثر طيبها, وأعطاه دنانير, وأمره أن يسير مع القافلة, ويظهر أن هذه هدية لاحدى نساء أمراء الأطراف.
ففعل التاجر ذلك وسار أمام القافلة, فنزل القوم وأخذوا الأمتعة والأموال وانفرد أحدهم بالبغل وصعد به مع جماعتهم الى الجبل, وبقي المسافرون عراة, فلما فتح الصندوق وجد الحلوى يضوع طيبها, ويدهش منظرها ويعجب ريحها, وعلم أنه لا يمكنه الاستبداد بها, فدعا أصحابه, فرأوا ما لم يروه أبدا قبل ذلك, فأمعنوا في الأكل عقيب مجاعة, فانقلبوا فهلكوا عن آخرهم, فبادر التجار الى أخذ أموالهم وأمتعتهم وسلاحهم, واستردوا المأخوذ عن آخره.
فلم أسمع بأعجب من هذه المكيدة, محت أثر العاتين وحصدت شوكة المفسدين
من كتاب الأذكياء لأبن الجوزي