نوماس
Well-Known Member
افْتَخَر انَّك سُعُوْدِي
ارفع راسك ياسعودي
ارفع راسك ياسعودي
بِسْم الْلَّه الْرَّحْمَن الْرَّحِيْم
يَكْفِيَك شَرَفَا يَا وَطَنِي أَنَّك مَهْد الْنُّبُوَّة، وَمُنْطَلِق الْرِّسَالَة، وَقَلْعَة الْإِسْلَام الْحَصِينَة، وَمَنَارَة الْتَّوْحِيْد إِلَى قِيَام الْسَّاعَة، كَمَا قَال نَبِيُّنَا صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم: "إِن الْشَّيْطَان قَد أَيِس أَن يَعْبُدَه الْمُصَلُّون فِي جَزِيْرَة الْعَرَب" رَوَاه مُسْلِم، وَقَال: "لَا هِجْرَة بَعْد الْفَتْح" يَعْنِي: فَتْح مَكَّة لِأَنَّهَا أَصْبَحَت دَار إِسْلَام، وَسَتَظَل كَذَلِك إِلَى آَخِر الْزَّمَان! وَالْحَدِيْث مُتَّفَق عَلَيْه.
سَتَبْقَى يَا وَطَنِي أَبَد الْدَّهْر مَهْد الْإِسْلَام وَحِصْنِه الْحُصَيْن، وَمَأْرِزَه وَمَلْجَأُه بَعْد الْلَّه تَعَالَى إِلَى يَوْم الْدِّيِن، كَمَا قَال نَبِيّنَا عَلَيْه الْصَّلاة وَالْسَّلام: "إِن الْإِسْلَام لَيَأْرِز إِلَى الْمَدِيْنَة، وَفِي رِوَايَة: بَيْن الْمَسْجِدَيْن كَمَا تَأْرِز الْحَيَّة إِلَى جُحْرِهَا" رَوَاه مُسْلِم.
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَنَّك تَضُم بَيْن جَنَبَاتِك خَيْر الْبِقَاع، وَأَفْضَل الْأَصْقَاع، وَأَقْدَس الْأَمَاكِن: مَكَّة الْمُكَرَّمَة وَالْمَدِيْنَة الْمُنَوَّرَة وَالْمَشَاعِر الْمُقَدَّسَة. أَلَيْس عَلَى بَيْن جَنَبَاتِك سُطِّرَت مَلَاحِم السِّيْرَة الْنَّبَوِيَّة، وَعَلَى ثَرَاك الْطَّاهِر دَرَجَت أَقْدَام الْحَبِيْب الْمُصْطَفَى، عَلَيْه أَفَضَل الْصَّلاة وَالْسَّلام، وَأَقْدَام أَصْحَابِه الْبَرَرَة الْكِرَام، وَمِنْه انْطَلَقْت جَحَافِل الْحَق تَنْشُر الْنُّوْر وَالْهُدَى فِي كُل أَصْقَاع الْأَرْض.
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَن الْلَّه جَعَلَك قِبْلَة لِلْمُسْلِمِيْن فِي جَمِيْع صَلَوَاتِهِم الْوَاجِبَة وَالْمُسْتَحَبَّة، وَأَوْجَب عَلَى كُل مُسْتَطِيْع شَد الْرِّحَال إِلَيْك لِلْحَج وَالْعُمْرَة، وَجَعَلَك مَهْوَى أَفْئِدَة الْمُسْلِمِيْن كُلِّهِم، وَمَحَط أَنْظَارَهُم، وَمَحَل تَقْدِيْرِهِم وَمَحَبَّتُهُم، اسْتِجَابَة لِنِدَاء أَبِيْنَا إِبْرَاهِيْم الْخَلِيْل: (وَأَذْن فِي الْنَّاس بِالْحَج يَأْتُوْك رِجَالا وَعَلَى كُل ضَامِر يَأْتِيَن مِن كُل فَج عَمِيْق)[الْحَج/27]، وَإِجَابَة لِدَعْوَتِه حِيْن دَعَا رَبَّه قَائِلَا: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْت مِن ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْر ذِي زَرْع عِنْد بَيْتِك الْمُحَرَّم رَبَّنَا لِيُقِيْمُوْا الصَّلَاة فَاجْعَل أَفْئِدَة مِّن الْنَّاس تَهْوِي إِلَيْهِم وَارْزُقْهُم مِّن الثَّمَرَات لَعَلَّهُم يَشْكُرُوْن)[إِبْرَاهِيْم/37].
لَقَد جَعَل الْلَّه لَك مِن الْقُدْسِيَّة وَالْهَيْبَة، وَالتَّعْظِيْم وَالْحُرْمَة، وَالْتَّقْدِيْر وَالْمَحَبَّة مَا لَم يَجْعَلْه لِغَيْرِك مِن الْبُلْدَان، (وَمَن يُرِد فِيْه بِإِلْحَاد بِظُلْم نُذِقْه مِن عَذَاب أَلِيْم)[الْحَج/25]، (إِن أَوَّل بَيْت وُضِع لِلْنَّاس لَلَّذِي بِبَكَّة مُبَارَكا وَهُدَى لِلْعَالَمِيْن (96) فِيْه آَيَات بَيِّنَات مَقَام إِبْرَاهِيْم وَمَن دَخَلَه كَان آَمِنا)[آَل عِمْرَان/96، 97]
فَهُو الْبَلَد الَّذِي بَارَكَه الْلَّه، وَأَمِن كُل دَاخِل فِيْه، وَلَو كَان طَيْرَا أَو حَيَوَانَا أَو هَامَّة إِلَا أَن يَكُوْن ظَالِما مُؤْذِيَا، وَلِهَذَا امْتَن عَلَى أَهْلِه وَزُوّارِه بِقَوْلِه: (فَلْيَعْبُدُوَا رَب هَذَا الْبَيْت (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِن جُوْع وَآَمَنَهُم مِن خَوْف)[قُرَيْش/3، 4]، وَقَوْلُه: (أَوَلَم نُمَكِّن لَهُم حَرَما آَمِنا يُجْبَى إِلَيْه ثَمَرَات كُل شَيْء رِزْقا مِن لَّدُنَّا)[الْقَصَص/57]، فَمَكَّة الْمُكَرَّمَة الَّتِي هِي قْلِب هَذَا الْبَلَد الْكَرِيْم، وَعَاصِمَة الْإِسْلام وَالْمُسْلِمِيْن، هِي الْبَلَد الْوَحِيْد الَّذِي لَا يَجُوْز أَن يَنْفِر صَيْدَه، أَو يُعْضَد شَوْكُه، أَو يُقْطَع شَجَرُه، أَو يُخْتَلَى خَلَاه، أَو تُلْتَقَط لُقَطَتَه إِلَّا لِمُنْشِد، وَلَا يُشَارِكُهَا فِي بَعْض هَذِه الْخَصَائِص إِلَا الْمَدِيْنَة الْمُنَوَّرَة، وَهُمَا فِي هَذَا الْوَطَن الْغَالِي كَالْعَيْنَيْن فِي الْوَجْه.
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَنَّك تَحْتَضِن فِي ثَرَاك الْطَّاهِر أَطْهَر إِنْسَان عَرَفَتْه الْبَشَرِيَّة، وَأَفْضَل مَخْلُوْق خَلَقَه الْلَّه فِي الْسَّمَاء وَالْأَرْض: سَيِّدِنَا وَقُدْوَتِنَا مُحَمْدَا صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَالْأَطْهَار الْبَرَرَة مِن أَزْوَاجَه وَآَل بَيْتِه وَأَصْحَابِه.
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَنَّك وُفِّقْت بِقِيَادَة حَكِيْمَة رَاشِدَة، جُعِلْت الْإِسْلَام شِعَارُهَا وَدِثَارُهَا، وَرَايَّتِهَا وَعِنْوَانْهَا، وَالْكِتَاب وَالْسَّنَة دُسْتُوْرُهَا وَمِنْهَاجُهَا، وَانْفَرَدَت مِن بَيْن أَكْثَر الْدُّوَل الْإِسْلَامِيَّة بِإِعْلان تَطْبِيْق الْشَّرِيْعَة الْإِسْلَامِيَّة، وَأَنَّهَا دُسْتُوْر الْدَّوْلَة وَقَانُونَهَا، وَمِنْهَا تُسْتَمَد جَمِيْع أَنْظِمَتِهَا وَتَّشْرِيعَاتِهَا، وَهِي تَفْتَخِر بِذَلِك وَتُذَكِّر بِه فِي كُل مُنَاسَبَة، وَلِهَذَا فَقَد عُنِيَت مُنْذ تَّأْسِيْسِهَا بِبِنَاء الْدَّوْلَة عَلَى الْتَّوْحِيْد وَالْوِحْدَة، وَحِمَايَة بَيْضَة الْإِسْلَام، وَتَرْسِيخ مَبَادِئَه، وَالْدَّعْوَة إِلَيْه وَتَبْلِيْغِه لِلْعَالَمِيْن، وَعُنِّيت عِنَايَة كَبِيْرَة بِنُصْرَة قَضَايَا الْمُسْلِمِيْن، وَالْعَمَل الْدَّؤُوب عَلَى جَمْع كَلِمَتَهُم، وَلَم شَمْلَهُم، وَتَوْحِيْد صُفُوْفَهُم، وَإِعَانَتِهِم وَالْنُّصْح لَهُم، وَالْعِنَايَة الْفَائِقَة بِتَصْحِيح عَقِيْدَتِهِم وَعِبَادَاتِهِم، وَتَحْذِيْرُهُم مِن الْبِدَع وَالْضَّلالَات، وَالْشَرْكِيّات وَالْخُرَافَات.
وَكَانَت لَهَا الْيَد الْطُّوْلَى فِي إِنْشَاء الْكَثِيْر مِن الْمَسَاجِد وَالْمَرْاكِز وَالْمَدَارِس الْإِسْلَامِيَّة فِي شَتَّى أَنْحَاء الْأَرْض، بَل لَّا تَكَاد تَجِد مُرَكَّزا إِسْلَامِيَّا وَنَشَاطَا دَعَويّا مُؤَثِّرَا فِي الْشَّرْق أَو الْغَرْب إِلَا وَجَدْت لِهَذِه الْبِلاد قِيَادَة وَشَعْبَا فَضْل الْسَّبْق فِي إِقَامَتِه وَرِعَايَتِه، أَو دَعْمِه ومُسَانَدَتِه، وَلَا يَكَاد يَخْلُو بَلَد غَيْر إِسْلَامِي مِن الْدُّعَاة وَالْمَطْبُوعَات وَالْمَصَاحِف وَالْتَّرْجَمَات الَّتِي تَرْعَاهَا وَتَدْعَمُهَا هَذِه الْبِلاد الْمُبَارَكَة، إِدْرَاكَا مِنْهَا لْواجَبِهَا تُجَاه دِيْنِهَا وَأَمِتْهَا، وَتَحْقِيْقا لرِسَالْتِهَا وَأَهْدَافِهَا الْمُسْتَمَدَّة مِن الْكِتَاب وَالْسُّنَّة، الْلَّذَيْن هُمَا دُسْتُوْرُهَا وَمِنْهَاجُهَا، وَامْتِثَالَا لِقَوْلِه تَعَالَى: (كُنْتُم خَيْر أُمَّة أُخْرِجَت لِلْنَّاس تَأْمُرُوْن بِالْمَعْرُوْف وَتَنْهَوْن عَن الْمُنْكَر وَتُؤْمِنُوْن بِاللَّه)[آَل عِمْرَان/110]، وَقَوْلُه: (وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِّلْعَالَمِيْن)[الْأَنْبِيَاء/107]، فَبَيْن أَن رِسَالَة الْإِسْلَام رَحْمَة لِكُل الْعَالَمِيْن، وَأَن الْمُسْلِم الْحَق أَرْحَم الْخَلْق بِالْخَلْق، وَخَيْر الْنَّاس لِلْنَّاس، يَبْذُل مَالَه وَجُهَدَه وَوَقْتُه لِأَجْل هِدَايَتِهِم وَإِسْعَادِهِم، وَأَمْرُهُم بِالْمَعْرُوْف وَنَهْيِهِم عَن الْمُنْكَر.
وَأَمَّا خِدْمَتِهَا لِلْحَرَمَيْن الْشَّرِيِفَيْن، وَلضُيُوَفَهُما مِن الْحَجَّاج وَالْمُعْتَمِرِيْن، وَالْحِرْص عَلَى إِكْرَامِهِم وَحِفْظ أَمِنْهُم، وَتَيْسِيْر أُمُوْرِهِم، وَتَوْفِيْر سُبُل الْرَّاحَة لَهُم، فَهُو أَمْر لَا يَخْفَى عَلَى ذِي عَيْنَيْن، وَلَا يُنْكِرُه إِلَّا جَاهِل أَحْمَق، أَو جَاحِد غَيْر مُوَفَّق، وَالْشَّمْس لَا تُغَطِّى بِغُرْبَال، وَلَيْس سَرَّا أَن أَكْبَر تَوْسِعَة لِلْحَرَمَيْن الْشَّرِيِفَيْن وَخِدْمَة لِلْمَشَاعِر الْمُقَدَّسَة إِنَّمَا تَمَّت وَتَتَابَعَت فِي هَذَا الْعَهْد الْزَّاهِر، وَلَا تَزَال التَّوَسُّعَات الْمُبَارَكَة وَالْخَدَمَات الْمُتَنَوِّعَة تَزْدَاد عَامّا بَعْد عَام، (وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافِسُون)[الْمُطَفِّفِيْن/26].
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَنَّك الْبَلَد الْوَحِيْد فِي الْعَالَم الَّذِي اخْتَارَك الْلَّه لِتَكُوْن مَحْضِنَا خَالِصَا لِلْإِسْلَام، فَلَا يُقَام فِيْك كَنِيْسَة وَلَا بِيَعَة وَلَا مَعْبَد غَيْر إِسْلَامِي، وَلَا يَرْتَفِع فِي جَنَبَاتِك شِعَار غَيْر شِعَار الْإِسْلَام، وَلَا يَسْمَح لِأَحَد بِالْدَّعْوَة فِيْك إِلَى غَيْر الْإِسْلَام، يَقُوْل نَبِيِّنَا عَلَيْه الْصَّلاة وَالْسَّلام: "لَئِن عِشْت لَأُخْرِجَن الْيَهُوْد وَالْنَّصَارَى مِن جَزِيْرَة الْعَرَب، حَتَّى لَا أَتْرُك فِيْهَا إِلَّا مُسْلِما" رَوَاه مُسْلِم، وَيَقُوْل: "أَخْرِجُوَا الْمُشْرِكِيْن مِن جَزِيْرَة الْعَرَب" مُتَّفَق عَلَيْه.
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَن شَعْبِك الْمُبَارَك يَدِيْن كُلِّه بِدَيْن الْإِسْلَام، فَلَيْس فِيْهِم يَهُوْدِي وَاحِد أَو نَصْرَانِي وَاحِد، فَجَمِيْع مَوَاطنيّك مُسْلِمُوْن 100%، وَلِلَّه الْحَمْد وَالْمِنَّة. وَهُم عَلَى الْرَّغْم مِمّا يَعْتَرِيْهِم مِن الْنَّقْص وَالتَّقْصِيْر، وَمَا يُبْتَلَى بِه بَعْضُهُم مِن الْانْحِرَاف وَالْعِصْيَان مِن أَكْثَر الْمُسْلِمِيْن تَمَسُّكِا بِهَذَا الْدِّيْن، وَحَمِيَّة لَه، وَغَيْرَة عَلَيْه، وُجِهَادَا فِي سَبِيِلِه، وَإِعْلَاء لَرَايْتَه، وَنُصْرَة لَه وَلِأَتْبَاعِه فِي مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبِهَا.
وَلَسْنَا نَقُوُل هَذَا عَصَبِيَّة وَعِنْصِرّيَّة، أَو حَمِيَّة جَاهِلِيَّة، وَلَكِنَّه الِاعْتِرَاف بِفَضْل الْلَّه تَعَالَى، الَّذِي يَسْتَوْجِب مِنَّا الْمَزِيْد مِن الْشُكُر لِلَّه وَالاعْتِرَاف بِفَضْلِه، وَبَذَل غَايَة الْوُسْع فِي نُصْرَة هَذَا الْدِّيْن، وَالْدِّفَاع عَن قَضَايَا الْمُسْلِمِيْن، وَأَدَاء الْأَمَانَة الَّتِي حَمَلْنَا الْلَّه إِيَّاهَا فِي الْرَّحْمَة بِالْعَالَمِيْن، وَنُشِر الْخَيْر فِي الْأَرْض، وَالْسَّعْي لِإِقَامَة الْحَق وَالْعَدْل، وَالتَّعَاوُن مَع كُل الْنَّاس عَلَى الْبِر وَالْتَّقْوَى، وَالْتَّنَاهِي عَن الْإِثْم وَالْعُدْوَان.
وَفَضَائِل هَذَا الْبَلَد الْمُبَارَك وَخَصَائِصُه أَشْهُر مِن أَن تُذْكَر، وَمَا حَبَاه الْلَّه مِن الْنَّعَم وَالْخَيْرَات أَعْظَم مِن أَن يُحْصَر، وَتَارِيْخُه الْمُشْرِف مُنْذ عَهْد الْنَّبِي صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم إِلَى أَن اسْتَلَمَه الْخِيَرَة الْكِرْام مِن آَل سُعُوْد أَكْبَر مِن أَن يَخْتَصِر. فَلِلَّه الْحَمْد أَوَّلَا وَآخِرَا.
وَإِن الْإِنْجَازَات وَالإِصْلَاحَات الَّتِي تَمَّت فِي هَذَا الْبَلَد الْمُبَارَك مُنْذ تَأْسِيْسُه عَلَى يَدِي الْمُلْك عَبْد الْعَزِيْز آَل سُعُوْد طَيِّب الْلَّه ثَرَاه وَتَغَمَّدَه بِوَاسِع رَحْمَتِه تَجْعَل الْمَرْء حَائِرَا عَن مَاذَا يَتَحَدَّث، لِأَن الْإِنْجَازَات كَثِيْرَة مُتَنَوِّعَة، وَالإِصْلَاحَات بَل الْقَفْزَات الْحَضَارِيَّة تَشْمَل كُل جَوَانِب الْحَيَاة الْدِّيْنِيَّة وَالْدُّنْيَوِيَّة، وَالْمَشَارِيْع الِتَنمَوّيّة الَّتِي تُتَابِع عَلَيْهَا حُكَّام هَذِه الْبِلاد تَكَاد تَجِل عَن الْحَصْر وَالْعِد.
فَقَد شَهِدَت الْمَمْلَكَة الْعَرَبِيَّة الْسُّعُوْدِيَّة خِلَال سَنَوَات مَّعْدُوْدَات قَفَزَات حَضَارِيَّة وَتَنمَوّيّة مُذْهِلَة فِي شَتَّى الْمَجَالَات، وَحَقَّقْت فِي فَتْرَة وَجِيْزَة مَا حَقَّقَتْه دُوَل فِي مِئَات مِن الْسَنَوَات.
فَبِالْإِضَافَة لِلْمَكانَة الْدِّيْنِيَّة لِلْمَمْلَكَة الْعَرَبِيَّة الْسُّعُوْدِيَّة أَصْبَح لَهَا مَكَانَة سِيَاسِيَّة وَاقْتِصَادِيَّة وَثَقَافِيَّة وَحَضَارِيَّة مَرْمُوْقَة، وَبَعْد اسْتَرَاتِيجِي عَالَمِي مُؤَثِّر.
وَهَذَا مَا يَحْسُدُنَا عَلَيْه كَثِيْر مِن أَعْدَاء وَطَنِنَا وَأَمِتْنَا وَدِيْنُنَا، وَيَجْعَلُهُم يَسْتَمِيْتُوْن فِي إِعَاقَة مَسِيْرَتَنَا، وَإِيْقَاف تَقَدَّمْنَا، وَتَدْمِير مَصَالِحِنَا ومُكْتَسَبَاتِنا، وَتَحْطِيم وَحْدَتِنَا، وَإِثَارَة الْفِتْنَة بَيْنَنَا، وَزَعْزَعِة أَمْنَنَا وَاسْتِقَرَارَانَا، وَسَلَخْنَا عَن هُوِيَّتِنَا وَمَصْدَر عِزَّتِنَا، وَنَشْر الْفَسَاد فِي أَرْضِنَا، وَتَشْوِيْه أَخْلَاقُنَا وَقِيَمِنَا، عَبْر وَسَائِل شَتَّى، لَعَل مَن أَخْطَرُهَا الْغَزْو الْفِكْرِي الَّذِي يُسْتَهْدَف نُشِر الشُّبُهَات، وَالتَّشْكِيْك فِي مُسْلِمَات الْعَقِيْدَة وَثَوَابِت الْشَرِيعَة، وَكَذَلِك الْغَزْو الْأَخْلاقِي الإِفَسَّادِي الَّذِي يُسْتَهْدَف تَدْمِيْر الْقِيَم وَالْأَخْلَاق، وَنَشْر الْفَسَاد وَالْفُجُور، وَعِبَادَة الْأَهْوَاء وَالشَّهَوَات، وَالْتَّشْجِيْع عَلَى انْتِهَاك الْحُدُوْد وَالْحُرُمَات، وَإِشَاعَة الْفَاحِشَة بَيْن الْمُؤْمِنِيْن وَالْمُؤْمِنَات، وَتَرْوِيج الْخُمُور وَالْمُخَدِّرَات، وَإِشْغَال الْنَّاس وَخَاصَّة الْشَبَاب بِالتَّوَافِه وَالصَّغَائِر عَن مَعَالِي الْأُمُوْر وَمَكَارِم الْأَخْلَاق.
وَإِذَا كَان الْعُقَلَاء يَتَّفِقُوْن عَلَى أَن حُب الْوَطَن أَمْر فِطْرِي، وَغَريزَة مَرْكُوْزَة فِي نَفْس كُل إِنْسَان سِوَي، فَإِن حَب هَذَا الْوَطَن ـ الَّذِي هُو مَهْد الْإِسْلَام، وَقَلعَتِه الْحَصِينَة، وَإِلَيْه يَأْرِز إِلَى قِيَام الْسَّاعَة، وَهُو قِبْلَة الْمُسْلِمِيْن وَمَهْوَى أَفْئِدَتَهُم ـ دِيَن وَإِيْمَان، وَبُغْضُه كُفْر وَنِفَاق، إِن حُبَّه وَالْدِّفَاع عَنْه، وَحِمَايَة أَمِنَه وَمُكْتَسَبَاتِه، وَصِيَانَة مَصَالِحِه وَحُرُمَاتِه، وَاجِب شَرْعِي، وَفَرِيْضَة إِسْلامِيَّة، لَيْس عَلَى أَهْل هَذَا الْبَلَد وَالْمُقِيْمِيْن فِيْه فَحَسْب، بَل هُو وَاجِب عَلَى كُل الْمُسْلِمِيْن فِي كُل أَصْقَاع الْأَرْض، لِأَن بَقَاءَه بَقَاء لِلْإِسْلَام وَأَهْلِه، واحْتِلَالُه وَانْتِهَاك حُرُمَاتِه تَدْمِيْر لِلْإِسْلَام وَأَهْلِه، كَمَا قَال رَبُّنَا سُبْحَانَه: (جَعَل الْلَّه الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قِيَاما لِّلْنَّاس)[الْمَائِدَة/97] أَي: بِه تَقُوْم مَصَالِحِهِم الْدِّيْنِيَّة وَالْدُّنْيَوِيَّة، وَلِهَذَا كَان مِن عَلَامَات الْسَّاعَة هَدَمَه بَعْد عِمَارَتِه، وَهُو إِيْذَان بِخَرَاب الْعَالَم وَنِهَايَتُه.
إِنَّنَا إِذ نَتَحَّدَث عَن الْيَوْم الْوَطَنِي لِهَذَا الْوَطَن الْغَالِي فَإِنَّنَا نُحَاوِل أَن نَسْتَحْضِر كُل الْقِيَم وَالْمَبَادِيء الَّتِي قَام عَلَيْهَا هَذَا الْكَيَان الْعِمْلاق، وَجَعَلَهَا دُسْتُوْرِه وَشِعَارُه، وَرَفَع بِهَا رَايَتَه، وَأَن نَتَذَكَّر كُل الْتَضَّحَيِات وَالْجُهُوْد الْجَبَّارَة الَّتِي صَاحَبَت بِنَاءَه وَتَوطِيد أَرْكَانِه، ثُم إِكْمَال مَسِيْرَة تَطْوِيْرُه وَتَنْمِيَتِه، لِنَعْبُر عَمَّا تَمْتَلِيء بِه قُلُوْبُنَا مِن مَحَبَّة وَتَقْدِيْر لِهَذِه الْأَرْض الْمُبَارَكَة، وَهَذَا الْوَطَن الْكَبِيْر وَقِيَمِه وَثَوَابِتِه وَخَصَائِصُه وَمَكَانَتُه الَّتِي مَيَّزَه الْلَّه بِهَا، وَلْنُعْلِن عَن حُبِّنَا الْصَّادِق وَدَعَوَاتِنا الْخَالِصَة لِمَن كَان لَهُم الْفَضْل بَعْد الْلَّه تَعَالَى فِيْمَا تُنْعِم بِه هَذِه الْبِلَاد مِن سَلَامَة فِي الْمَنْهَج، وَصِحَّة فِي الْعَقِيْدَة وَالْعِبَادَة، وَخُلُوْص مِن الْشِّرْكِيَّات وَالْبِدَع وَالْخُرَافَات، وَاعْتِزَاز بِالْدِّيْن وَحُكْم بِالْشَّرِيِعَة وَتَحَاكَم إِلَيْهَا، مِمَّا نَتَج عَنْه وَحْدَة نَادِرَة، وَتَلَاحُم عَجِيْب، وَأَمِن وَارِف، وَعَيْش رَغْيَد، وَمُنْجِزَات حَضَارِيَّة فَاقَت التَّوَقُّعَات، وَمَكَانَة مَرْمُوْقَة إِقْلِيميّا وَدُوَلِيّا.
إِن الْوَطَنِيَّة الْحَقَّة لَيْسَت بِرَفْع الْأَعْلام وَالشِّعَارَات، أَوَإِقَامَة الاحْتِفَالَات وَالمَهْرَجَانَات، وَلَا فِي تَرْدِيْد الْأَنَاشِيْد وَالْأَشْعَار الْوَطَنِيَّة، وَهِي مِن بَاب أَوْلَى لَيْسَت بِانْتِهَاك الْحُرُمَات، وَالْمُجَاهَرَة بِالْمُنَكَّرَات، وَالْتَسَكُّع فِي الْشَّوَارِع وَالطُّرُقَات، وَمُضَايَقَة الْنَاس فِي الْأَمَاكِن الْعَامَّة وَالْتَّجَمُّعَات، كَمَا يَفْعَلُه بَعْض الْجَهَلَة مِن الْشَّبَاب وَالْفَتَيَات، فَإِن الْتَّفَاخُر بِالْحَرَام وَالتَّبَجُّح بِه، وَالاسْتِهْتَار وَالِفِوْضويّة، وَإِشْغَال رِجَال الْأَمْن، وَإِيْذَاء الْنَّاس مَن الْمُوَاطِنِيْن وَالْمُقِيْمِيْن وَالْزَّائِرِيْن تُخْلِف وَجَهِل، وَظُلْم وَعُدْوَان، وَهِي مِن أَعْظَم مَا يُسِيْء إِلَى الْوَطَن وَيُشَوِّه سَمِعْتُه، وَلَن يَشْفَع لِأَحَد مِن هَؤُلَاء الْمُسْتَهْتَرَيْن زَعْمِه بِأَنَّه يَفْعَل ذَلِك احْتِفَاء بِالْيَوْم الْوَطَنِي وَابْتِهَاجا بِه، فَالاحْتِفَاء بِالْوَطَن يَعْنِي الْحِرْص عَلَى حِمَايَة مُكْتَسَبَاتَه، وَالُمَحَافَظَة عَلَى مَصَالِحِه وَحُرُمَاتِه، وَالْحَذَر مِن كُل مَا يُشَوِّه صَوَّرْتُه أَو يُسِيْء إِلَى سَمِعْتُه.
إِن الْوَطَنِيَّة الْحَقَّة تَعْنِي تَكَاتَف الْجُهُوْد وَتَفْهَم جَمِيْع الْمُوَاطِنِيْن وَالْمُقِيْمِيْن وَتَعَاوُنِهِم لِتَحْقِيْق الْآتِي:
أَوَّلَا: احْتِرَام دُسْتُوْر هَذِه الْبِلاد وَنِظَامِهَا الْقَائِم عَلَى الْكِتَاب وَالْسُّنَّة وَتَحْكِيم الْشَرِيعَة الْإِسْلَامِيَّة فِي جَمِيْع شُؤْون الْحَيَاة، فَأَي خَرْق لِهَذَا الْدُّسْتُور وَمُخَالَفَة لِلْقُرْآن الْكَرِيم وَالْسَّنَة الْنَّبَوِيَّة الْصَّحِيْحَة بِلَا عُذْر شَرْعِي مِن جَهْل أَو نِسْيَان أَو إِكْرَاه أَو تَأْوِيْل سَائِغ فَإِنَّه يُعَد خُرُوْجَا عَن الْوَطَنِيَّة الْحَقَّة، وَنَقْصَا فِي صِدْق الْوَلَاء لِهَذَا الْوَطَن وَقِيَادَتُه وَشَعْبُه.
ثَانِيَا: الْمُحَافَظَة عَلَى أَمْن هَذَا الْوَطَن وَوَحْدَتِه وَتَمَاسُكَه، وَحِمَايَة مَصَالِحِه وَمُكْتَسَبَاتِه، وَأَن نَكُوْن جَمِيْعَا جُنُوْدَا مُخْلِصِيْن لِهَذَا الْوَطَن، وَأَعْيُنَا سَاهِرَة لِحِمَايَة أَمِنَه، وَتَحْقِيْق طُمَأْنِيْنَتُه وَاسْتِقْرَارِه، وَأَن نَتَنَبَّه لِحِيِل الْمُتَرَبِّصِين بِه وَالْكَائِدِين لَه، وَأَن نَقْطَع الْطَّرِيْق عَلَى كُل الْجَهَلَة وَالْمُجْرِمِيْن دَاخِل مُجْتَمَعُنَا وَخَارِجَه مِن الْأَفْرَاد وَالْجَمَاعَات الَّتِي تَعْمَل بِسَبَب جَهِلَهَا أَو إِجْرَامِهَا عَلَى زَعْزَعَة الْأَمْن وَالاسْتِقْرِار، وَإِثَارَة الْفِتَن الْدَّاخِلِيَّة، وَضَرَب الْوَحْدَة الْوَطَنِيَّة الْقَائِمَة عَلَى الْعَدْل وَإِعْطَاء كُل ذِي حَق حَقَّه.
وَلَيْس أَعْدَاء وَطَنِنَا وَأَمِتْنَا وَدِيْنُنَا بِأَحْرَص عَلَى شَيْء حِرْصِهِم عَلَى إِثَارَة الْفِتَن وَالْصِّرَاعَات الْدَّاخِلِيَّة، وَرَفَع الْرَّايَات الْعُنْصُرِيَّة وَالْجَاهِلِيَّة، وَالْضَّرْب عَلَى وِتْر النِّزَاعَات الْطَّائِفِيَّة وَالْقَبَلِيَّة وَالْمَنَّاطِقِيّة، وَتَحْرِيْش الْنَّاس بَعْضَهُم عَلَى بَعْض، وَتَشْجِيعِهُم لِلْجَهَلَة وَالْظُّلْمَة مِنْهُم عَلَى تَخْرِيْب بُيُوْتَهُم بِأَيْدِيْهِم، وَتَدْمِير مَصَالِحِهِم ومُكْتَسُبَاتِهُم، لِأَنَّهُم يُدْرِكُوْن أَن هَذَا لَو حَصَل فَإِنَّه سَيُحَقِّق أَهْدَافِهِم فِي إِضْعَافَنا وَتَشْتِيت قُوَّتِنَا، وَالْسَّيْطَرَة عَلَى خَيْرَاتُنَا ومُكْتَسَبَاتِنا، وَتَدْمِير دِيْنِنَا وَأَخِلَّاقِنَا، وَسَيُوَفَّر عَلَيْهِم الْكَثِيْر مِن الْوَقْت وَالْجَهْد وَالْمَال وَالْدَّم، فَهُو أَكْثَر الْطُّرُق فَاعِلِيَّة، وَأَسْرَعِهَا فِي تَدْمِيْر الْمُجْتَمَعَات، وَهُو أَحَب الْأَشْيَاء إِلِى أَعْدَائِنَا، وَأَقَلُّهَا تَكَالِيْف بِالْنِّسْبَة لَهُم.
فَلَيْس شَيْء أَفْسَد لِلْمُجْتَمِعَات وَأَكْثَر إِضْعَافَا لَهَا، وَإِغْرَاء لِأَعْدَائِهَا بِهَا، مِن الْفِتَن وَالْنِّزَاعَات الْدَّاخِلِيَّة، وَرُبَّمَا يَلْبَسُوْنَهَا لَبُوْس الْدِّيْن وَالْغَيْرَة عَلَيْه وَالْدِّفَاع عَنْه، وَبِه يَخْدَعُوْن الْجَهَلَة وَالمُتَعِجُلِين مِن أَبْنَائِنَا، وَيَسْخِّرَونَهُم لِخِدْمَة أَهْدَافِهِم الخَبِيْثَة، وَخُطَطِهِم وَسِيَاسَاتِهِم الْمَاكِرَة، كَيْف وَالْلَّه تَعَالَى يَقُوْل: (وَأَطِيْعُوْا الْلَّه وَرَسُوْلَه وَلَا تَنَازَعُوَا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَب رِيْحُكُم وَاصْبِرُوَا إِن الْلَّه مَع الصَّابِرِيْن)[الْأَنْفَال/46]، وَيَقُوْل سُبْحَانَه: (وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْل الْلَّه جَمِيْعا وَلَا تَفَرَّقُوٓا وَاذْكُرُوْا نِعْمَة الْلَّه عَلَيْكُم إِذ كُنْتُم أَعْدَاء فَأَلَّف بَيْن قُلُوْبِكُم فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِه إِخْوَانا)[آَل عِمْرَان/103]، وَيُحَذَرْنا نَبِيِّنَا صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن ذَلِك فَيَقُوْل: "إِن الْشَّيْطَان قَد أَيِس أَن يَعْبُدَه الْمُصَلُّون فِي جَزِيْرَة الْعَرَب، وَلَكِن فِي الْتَّحْرِيْش بَيْنَهُم" رَوَاه مُسْلِم.
ثَالِثَا: الْشُّعُوْر بِالْمَسْؤُوْلِيَّة وَعَظُم الْأَمَانَة الَّتِي يَتَحَمَّلُهَا كُل فَرْد مِن أَفْرَاد الْمُجْتَمَع، فَكُل مُحَاسَب عَن عَمَلِه، وَمَسْؤُول عَن إِصْلَاح نَفْسِه وَمَن تَحْت يَدِه، وَكُل فَرَد فِي هَذَا الْوَطَن لَه قِيْمَتَه وَقَدْرُه، وَهُو لَبِنَة مِن لَبِنَات بِنَائِه يُؤْثَر فِيْه سَلْبَا أَو إِيْجَابِا، فَيَجِب أَن يُدْرِك وَاجِبَه تُجَاه دِيْنِه وَوَطَنِه، وَأَن نَجَاحِه وَإِبْدَاعُه فِي عَمَلِه وَكَسْبُه يُصَب فِي مَصْلَحَة وَطَنِه وَيُقَوِّيه، وَأَن فَشَلِه يُضْعِفُه وَيُشْقِيه.
فَيَجِب أَن يَجْتَهِد كُل مَوَاطِن فِي تَّأْهِيْل نَفْسِه وَالْرُّقِي بِهَا، دِيْنِيّا وَثَقَافِيَّا وَاقْتِصَادِيا، وَالْحِرْص عَلَى الْنَّجَاح وَالْتَّفَوُّق، وَإِجَادَة الْعَمَل وَإِتْقَانِه، كُل فِيْمَا يَخُصُّه وَيُنَاسِب قُدُرَاتِه، فَكُل مُيَسَّر لِمَا خُلِق لَه، وَكُل مُوَاطِن عَلَى ثَغْر مِن ثُغُوْر هَذَا الْوَطَن، فَاللَّه الْلَّه أَن يُؤْتَى الْوَطَن مِن قَبْلِه.
رَابِعَا: الْمُشَارِكَة فِي إِصْلَاح الْمُجْتَمَع وَتَزْكِيَتِه وَالْرُّقِي بِه، وَتَنْقِيَتُه مِن الْأَمْرَاض وَالآَفَات الَّتِي تُفْسِدُه وَتَضَعَّفَه، أَو تُسْتَجْلَب عَلَيْه سَخَط الْلَّه وَمَقْتُه، وَالْمُسَاهَمَة الْفَاعِلَة فِي صِنَاعَة التَّطَوُّر الْحَضَارِي، وَدَعَم الْبُنَى الاقْتِصَادِيَّة وَالاجْتِمَاعِيَّة وَالْثَّقَافِيَّة الَّتِي تُحَقِّق نَقَلَة حَضَارِيَّة لِلْوَطَن وَأَهْلَه.
وَمَن أَخْطَر مَا يُهَدِّد الْأَوْطَان وَالْمُجْتَمِعَات انْتِشَار الْخُمُور وَالْمُخَدِّرَات، حَيْث تُشَل حَرَكَة الْمُتَعَاطِين لَهَا، وَتُقَلِّل نَفَعَهُم وَإِنْتَاجِهِم، وَتَعْصِف بِقِيَمِهِم وَأَخْلَاقِهِم، وَتَسْلْبِهُم دِيْنَهُم وَشَهَامَّتِهُم، بَل وَتَجْعَلُهُم عَالَة عَلَى مُجْتَمَعُهُم، فَيَخْسَر الْكَثِيْر مِن أَجْلِهِم، وَيَنَالُونَه بِأَنْوَاع مِن الْظُّلْم وَالْأَذَى، فَجَمَعُوا عَلَى وَطَنِهِم مُصِيْبَتَيْن كَبِيْرَتَيْن: خَسَارَتِه لَهُم ولإِنتِاجِهُم، وَظُلْمِهِم لَه وَعُدْوَانِهِم عَلَيْه!! وَالْمُتَأَمِّل فِي تِلْك الْكَمِّيَّات الْمَهُوْلَة الَّتِي يُرَاد تَرْوِيْجِهَا فِي بِلَادِنَا الْمُبَارَكَة يُدْرِك أَنَّنَا أَمَام حَرْب شَرِسَة، وَأَن تَرْوِيْج الْمُخَدِّرَات وَالْمُتَاجَرَة فِيْهَا، وَتَعَاطِيُّهَا وَنَشَرَهَا بَيْن أَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا مِن أَعْظَم مَدَاخِل الْأَعْدَاء عَلَيْنَا، وَمِن أَكْبَر أَبْوَاب حَرْبِهِم لَنَا، وَسَعْيُهُم لِتَدْمِير دِيْنِنَا ومُكْتَسَبَاتِنا.
خَامِسَا: كُل مُوَاطِن صُوْرَة عَن وَطَنِه وَّأُنْمُوْذَج لَه يُعَبَّر عَنْه أَمَام الْمُقِيْمِيْن وَالْزَّائِرِيْن، وَهُو سَفِيْر لِوَطَنِه حِيْن يَكُوْن مُسَافِرَا لِبَلَد آَخَر، فَأَي تَصْرِف يُصْدِر مِنْه سَيُحْسَب عَلَى وَطَنِه سَلْبَا أَو إِيْجَابِا، فَكَان حُسْن الْخُلُق، وَالْإِحْسَان إِلَى الْخَلْق، وَطِيْب الْمُعَامَلَة، وَدَمَاثَة الْمُعَاشَرَة، وَالْصِّدْق وَالْأَمَانَة، وَالْوَفَاء بِالْعُهُوْد وَالْعُقُود، وَالْغَض عَن الْحُرُمَات، وَالتَّجَافِي عَن الْفَوَاحِش و الْمُنْكَرَات، مِن أَعْظَم مَا يُسْهَم فِي تَحْسِيْن صُوْرَة وَطَنِنَا وَدِيْنُنَا، وَنَسْتَجْلّب بِه مَحَبَّة الْنَّاس وَتَقْدِيْرِهِم لَنَا، وَاحْتِرَامَهُم لِدِيِنِنَا وَقِيَمِنَا.
سَادِسا: إِن الْمَكَانَة الْكَبِيْرَة الَّتِي هَيَّأَهَا الْلَّه لِبِلَاد الْحَرَمَيْن الْشَّرِيِفَيْن: الْمَمْلَكَة الْعَرَبِيَّة الْسُّعُوْدِيَّة، جَعَلَهَا مَحَط أَنْظَار الْعَالَم، وَمَحَل اهْتِمَامِهِم، وَهِي وَإِن كَانَت نِعْمَة جَلِيْلَة فَإِنَّهَا فِي ذَات الْوَقْت أَمَانَة ثَقِيْلَة، وَمَسْؤُولِيَّة عَظِيْمَة، كَمَا قَال رَبُّنَا سُبْحَانَه: (وَإِنَّه لَذِكْر لَّك وَلِقَوْمِك وَسَوْف تُسْأَلُوْن)[الزُّخْرُف/44]، فَهَذَا الْدِّيْن، وَتِلْك الْخَصَائِص الَّتِي امْتَن الْلَّه بِهَا عَلَيْنَا عَز وَشَرَف وَكَرَامَة لَنَا، وَهِي مَحَل فَخْرُنَا وَاعْتِزَازِنَا، وَلَكِنَّنَا سَنُسْأَل عَن شُكْرِهَا وَالْقِيَام بِحَقِّهَا، مِن الْتَّمَسُّك بِهَذَا الْدِّيْن وَحَمْلِه وَتَبْلِيْغِه لِلْعَالَمِيْن.
وَبَالَشَّكْر تَدُوْم الْنِّعَم وَتَزِيْد، وَأَعْظَم نَعَم الْلَّه تَعَالَى عَلَيْنَا أَن هَدَانَا لِلْإِسْلَام، وَفُضِّلْنَا بِهَذَا الْدِّيْن عَلَى سَائِر الْأَنَام، وَجَعَلْنَا مِن بِلَاد الْإِسْلَام وَالْسَّلام، وَأَهْل بَيْتِه الْحَرَام، وَجَعَل حُمِّل هَذَا الْدِّيْن وَتَبْلِيْغِه لِلْعَالَمِيْن أَمَانَة فِي أَعْنَاقِنَا، فَكَان مِن أَوْجَب الْوَاجِبَات عَلَيْنَا قَادَة وَشَعْبَا أَن نَجْتَهِد فِي خِدْمَة الْحَرَمَيْن الْشَّرِيِفَيْن وَتَعْظِيْم حَرَّمَتْهُمَا، وَتَوْفِيْر الْأَمْن وَالْرِّعَايَة وَحُسْن الْمُعَامَلَة لضُيُوَفَهُما مِن الْحَجَّاج وَالْمُعْتَمِرِيْن، وَأَن نَعْمَل جَاهِدِيْن عَلَى هِدَايَة الْخَلْق وَنَشْر الْدَّعْوَة الْإِسْلَامِيَّة، وَإِسْعَاد الْبَشَرِيَّة، وَخِدْمَة الْإِنْسَانِيَّة، لِأَنَّنَا فِي خَيْر الْأَوْطَان: وَطَن الْعِز وَالْشُّمُوْخ، وَطَن الْبَذْل وَالْعَطَاء، وَطَن الْخَيْر وَالْبِر، وَطَن الْإِسْلَام
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَنَّك تَضُم بَيْن جَنَبَاتِك خَيْر الْبِقَاع، وَأَفْضَل الْأَصْقَاع، وَأَقْدَس الْأَمَاكِن: مَكَّة الْمُكَرَّمَة وَالْمَدِيْنَة الْمُنَوَّرَة وَالْمَشَاعِر الْمُقَدَّسَة. أَلَيْس عَلَى بَيْن جَنَبَاتِك سُطِّرَت مَلَاحِم السِّيْرَة الْنَّبَوِيَّة، وَعَلَى ثَرَاك الْطَّاهِر دَرَجَت أَقْدَام الْحَبِيْب الْمُصْطَفَى، عَلَيْه أَفَضَل الْصَّلاة وَالْسَّلام، وَأَقْدَام أَصْحَابِه الْبَرَرَة الْكِرَام، وَمِنْه انْطَلَقْت جَحَافِل الْحَق تَنْشُر الْنُّوْر وَالْهُدَى فِي كُل أَصْقَاع الْأَرْض.
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَن الْلَّه جَعَلَك قِبْلَة لِلْمُسْلِمِيْن فِي جَمِيْع صَلَوَاتِهِم الْوَاجِبَة وَالْمُسْتَحَبَّة، وَأَوْجَب عَلَى كُل مُسْتَطِيْع شَد الْرِّحَال إِلَيْك لِلْحَج وَالْعُمْرَة، وَجَعَلَك مَهْوَى أَفْئِدَة الْمُسْلِمِيْن كُلِّهِم، وَمَحَط أَنْظَارَهُم، وَمَحَل تَقْدِيْرِهِم وَمَحَبَّتُهُم، اسْتِجَابَة لِنِدَاء أَبِيْنَا إِبْرَاهِيْم الْخَلِيْل: (وَأَذْن فِي الْنَّاس بِالْحَج يَأْتُوْك رِجَالا وَعَلَى كُل ضَامِر يَأْتِيَن مِن كُل فَج عَمِيْق)[الْحَج/27]، وَإِجَابَة لِدَعْوَتِه حِيْن دَعَا رَبَّه قَائِلَا: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْت مِن ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْر ذِي زَرْع عِنْد بَيْتِك الْمُحَرَّم رَبَّنَا لِيُقِيْمُوْا الصَّلَاة فَاجْعَل أَفْئِدَة مِّن الْنَّاس تَهْوِي إِلَيْهِم وَارْزُقْهُم مِّن الثَّمَرَات لَعَلَّهُم يَشْكُرُوْن)[إِبْرَاهِيْم/37].
لَقَد جَعَل الْلَّه لَك مِن الْقُدْسِيَّة وَالْهَيْبَة، وَالتَّعْظِيْم وَالْحُرْمَة، وَالْتَّقْدِيْر وَالْمَحَبَّة مَا لَم يَجْعَلْه لِغَيْرِك مِن الْبُلْدَان، (وَمَن يُرِد فِيْه بِإِلْحَاد بِظُلْم نُذِقْه مِن عَذَاب أَلِيْم)[الْحَج/25]، (إِن أَوَّل بَيْت وُضِع لِلْنَّاس لَلَّذِي بِبَكَّة مُبَارَكا وَهُدَى لِلْعَالَمِيْن (96) فِيْه آَيَات بَيِّنَات مَقَام إِبْرَاهِيْم وَمَن دَخَلَه كَان آَمِنا)[آَل عِمْرَان/96، 97]
فَهُو الْبَلَد الَّذِي بَارَكَه الْلَّه، وَأَمِن كُل دَاخِل فِيْه، وَلَو كَان طَيْرَا أَو حَيَوَانَا أَو هَامَّة إِلَا أَن يَكُوْن ظَالِما مُؤْذِيَا، وَلِهَذَا امْتَن عَلَى أَهْلِه وَزُوّارِه بِقَوْلِه: (فَلْيَعْبُدُوَا رَب هَذَا الْبَيْت (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِن جُوْع وَآَمَنَهُم مِن خَوْف)[قُرَيْش/3، 4]، وَقَوْلُه: (أَوَلَم نُمَكِّن لَهُم حَرَما آَمِنا يُجْبَى إِلَيْه ثَمَرَات كُل شَيْء رِزْقا مِن لَّدُنَّا)[الْقَصَص/57]، فَمَكَّة الْمُكَرَّمَة الَّتِي هِي قْلِب هَذَا الْبَلَد الْكَرِيْم، وَعَاصِمَة الْإِسْلام وَالْمُسْلِمِيْن، هِي الْبَلَد الْوَحِيْد الَّذِي لَا يَجُوْز أَن يَنْفِر صَيْدَه، أَو يُعْضَد شَوْكُه، أَو يُقْطَع شَجَرُه، أَو يُخْتَلَى خَلَاه، أَو تُلْتَقَط لُقَطَتَه إِلَّا لِمُنْشِد، وَلَا يُشَارِكُهَا فِي بَعْض هَذِه الْخَصَائِص إِلَا الْمَدِيْنَة الْمُنَوَّرَة، وَهُمَا فِي هَذَا الْوَطَن الْغَالِي كَالْعَيْنَيْن فِي الْوَجْه.
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَنَّك تَحْتَضِن فِي ثَرَاك الْطَّاهِر أَطْهَر إِنْسَان عَرَفَتْه الْبَشَرِيَّة، وَأَفْضَل مَخْلُوْق خَلَقَه الْلَّه فِي الْسَّمَاء وَالْأَرْض: سَيِّدِنَا وَقُدْوَتِنَا مُحَمْدَا صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم، وَالْأَطْهَار الْبَرَرَة مِن أَزْوَاجَه وَآَل بَيْتِه وَأَصْحَابِه.
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَنَّك وُفِّقْت بِقِيَادَة حَكِيْمَة رَاشِدَة، جُعِلْت الْإِسْلَام شِعَارُهَا وَدِثَارُهَا، وَرَايَّتِهَا وَعِنْوَانْهَا، وَالْكِتَاب وَالْسَّنَة دُسْتُوْرُهَا وَمِنْهَاجُهَا، وَانْفَرَدَت مِن بَيْن أَكْثَر الْدُّوَل الْإِسْلَامِيَّة بِإِعْلان تَطْبِيْق الْشَّرِيْعَة الْإِسْلَامِيَّة، وَأَنَّهَا دُسْتُوْر الْدَّوْلَة وَقَانُونَهَا، وَمِنْهَا تُسْتَمَد جَمِيْع أَنْظِمَتِهَا وَتَّشْرِيعَاتِهَا، وَهِي تَفْتَخِر بِذَلِك وَتُذَكِّر بِه فِي كُل مُنَاسَبَة، وَلِهَذَا فَقَد عُنِيَت مُنْذ تَّأْسِيْسِهَا بِبِنَاء الْدَّوْلَة عَلَى الْتَّوْحِيْد وَالْوِحْدَة، وَحِمَايَة بَيْضَة الْإِسْلَام، وَتَرْسِيخ مَبَادِئَه، وَالْدَّعْوَة إِلَيْه وَتَبْلِيْغِه لِلْعَالَمِيْن، وَعُنِّيت عِنَايَة كَبِيْرَة بِنُصْرَة قَضَايَا الْمُسْلِمِيْن، وَالْعَمَل الْدَّؤُوب عَلَى جَمْع كَلِمَتَهُم، وَلَم شَمْلَهُم، وَتَوْحِيْد صُفُوْفَهُم، وَإِعَانَتِهِم وَالْنُّصْح لَهُم، وَالْعِنَايَة الْفَائِقَة بِتَصْحِيح عَقِيْدَتِهِم وَعِبَادَاتِهِم، وَتَحْذِيْرُهُم مِن الْبِدَع وَالْضَّلالَات، وَالْشَرْكِيّات وَالْخُرَافَات.
وَكَانَت لَهَا الْيَد الْطُّوْلَى فِي إِنْشَاء الْكَثِيْر مِن الْمَسَاجِد وَالْمَرْاكِز وَالْمَدَارِس الْإِسْلَامِيَّة فِي شَتَّى أَنْحَاء الْأَرْض، بَل لَّا تَكَاد تَجِد مُرَكَّزا إِسْلَامِيَّا وَنَشَاطَا دَعَويّا مُؤَثِّرَا فِي الْشَّرْق أَو الْغَرْب إِلَا وَجَدْت لِهَذِه الْبِلاد قِيَادَة وَشَعْبَا فَضْل الْسَّبْق فِي إِقَامَتِه وَرِعَايَتِه، أَو دَعْمِه ومُسَانَدَتِه، وَلَا يَكَاد يَخْلُو بَلَد غَيْر إِسْلَامِي مِن الْدُّعَاة وَالْمَطْبُوعَات وَالْمَصَاحِف وَالْتَّرْجَمَات الَّتِي تَرْعَاهَا وَتَدْعَمُهَا هَذِه الْبِلاد الْمُبَارَكَة، إِدْرَاكَا مِنْهَا لْواجَبِهَا تُجَاه دِيْنِهَا وَأَمِتْهَا، وَتَحْقِيْقا لرِسَالْتِهَا وَأَهْدَافِهَا الْمُسْتَمَدَّة مِن الْكِتَاب وَالْسُّنَّة، الْلَّذَيْن هُمَا دُسْتُوْرُهَا وَمِنْهَاجُهَا، وَامْتِثَالَا لِقَوْلِه تَعَالَى: (كُنْتُم خَيْر أُمَّة أُخْرِجَت لِلْنَّاس تَأْمُرُوْن بِالْمَعْرُوْف وَتَنْهَوْن عَن الْمُنْكَر وَتُؤْمِنُوْن بِاللَّه)[آَل عِمْرَان/110]، وَقَوْلُه: (وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة لِّلْعَالَمِيْن)[الْأَنْبِيَاء/107]، فَبَيْن أَن رِسَالَة الْإِسْلَام رَحْمَة لِكُل الْعَالَمِيْن، وَأَن الْمُسْلِم الْحَق أَرْحَم الْخَلْق بِالْخَلْق، وَخَيْر الْنَّاس لِلْنَّاس، يَبْذُل مَالَه وَجُهَدَه وَوَقْتُه لِأَجْل هِدَايَتِهِم وَإِسْعَادِهِم، وَأَمْرُهُم بِالْمَعْرُوْف وَنَهْيِهِم عَن الْمُنْكَر.
وَأَمَّا خِدْمَتِهَا لِلْحَرَمَيْن الْشَّرِيِفَيْن، وَلضُيُوَفَهُما مِن الْحَجَّاج وَالْمُعْتَمِرِيْن، وَالْحِرْص عَلَى إِكْرَامِهِم وَحِفْظ أَمِنْهُم، وَتَيْسِيْر أُمُوْرِهِم، وَتَوْفِيْر سُبُل الْرَّاحَة لَهُم، فَهُو أَمْر لَا يَخْفَى عَلَى ذِي عَيْنَيْن، وَلَا يُنْكِرُه إِلَّا جَاهِل أَحْمَق، أَو جَاحِد غَيْر مُوَفَّق، وَالْشَّمْس لَا تُغَطِّى بِغُرْبَال، وَلَيْس سَرَّا أَن أَكْبَر تَوْسِعَة لِلْحَرَمَيْن الْشَّرِيِفَيْن وَخِدْمَة لِلْمَشَاعِر الْمُقَدَّسَة إِنَّمَا تَمَّت وَتَتَابَعَت فِي هَذَا الْعَهْد الْزَّاهِر، وَلَا تَزَال التَّوَسُّعَات الْمُبَارَكَة وَالْخَدَمَات الْمُتَنَوِّعَة تَزْدَاد عَامّا بَعْد عَام، (وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافِسُون)[الْمُطَفِّفِيْن/26].
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَنَّك الْبَلَد الْوَحِيْد فِي الْعَالَم الَّذِي اخْتَارَك الْلَّه لِتَكُوْن مَحْضِنَا خَالِصَا لِلْإِسْلَام، فَلَا يُقَام فِيْك كَنِيْسَة وَلَا بِيَعَة وَلَا مَعْبَد غَيْر إِسْلَامِي، وَلَا يَرْتَفِع فِي جَنَبَاتِك شِعَار غَيْر شِعَار الْإِسْلَام، وَلَا يَسْمَح لِأَحَد بِالْدَّعْوَة فِيْك إِلَى غَيْر الْإِسْلَام، يَقُوْل نَبِيِّنَا عَلَيْه الْصَّلاة وَالْسَّلام: "لَئِن عِشْت لَأُخْرِجَن الْيَهُوْد وَالْنَّصَارَى مِن جَزِيْرَة الْعَرَب، حَتَّى لَا أَتْرُك فِيْهَا إِلَّا مُسْلِما" رَوَاه مُسْلِم، وَيَقُوْل: "أَخْرِجُوَا الْمُشْرِكِيْن مِن جَزِيْرَة الْعَرَب" مُتَّفَق عَلَيْه.
يَكْفِيْك فَخْرَا يَا وَطَنِي أَن شَعْبِك الْمُبَارَك يَدِيْن كُلِّه بِدَيْن الْإِسْلَام، فَلَيْس فِيْهِم يَهُوْدِي وَاحِد أَو نَصْرَانِي وَاحِد، فَجَمِيْع مَوَاطنيّك مُسْلِمُوْن 100%، وَلِلَّه الْحَمْد وَالْمِنَّة. وَهُم عَلَى الْرَّغْم مِمّا يَعْتَرِيْهِم مِن الْنَّقْص وَالتَّقْصِيْر، وَمَا يُبْتَلَى بِه بَعْضُهُم مِن الْانْحِرَاف وَالْعِصْيَان مِن أَكْثَر الْمُسْلِمِيْن تَمَسُّكِا بِهَذَا الْدِّيْن، وَحَمِيَّة لَه، وَغَيْرَة عَلَيْه، وُجِهَادَا فِي سَبِيِلِه، وَإِعْلَاء لَرَايْتَه، وَنُصْرَة لَه وَلِأَتْبَاعِه فِي مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبِهَا.
وَلَسْنَا نَقُوُل هَذَا عَصَبِيَّة وَعِنْصِرّيَّة، أَو حَمِيَّة جَاهِلِيَّة، وَلَكِنَّه الِاعْتِرَاف بِفَضْل الْلَّه تَعَالَى، الَّذِي يَسْتَوْجِب مِنَّا الْمَزِيْد مِن الْشُكُر لِلَّه وَالاعْتِرَاف بِفَضْلِه، وَبَذَل غَايَة الْوُسْع فِي نُصْرَة هَذَا الْدِّيْن، وَالْدِّفَاع عَن قَضَايَا الْمُسْلِمِيْن، وَأَدَاء الْأَمَانَة الَّتِي حَمَلْنَا الْلَّه إِيَّاهَا فِي الْرَّحْمَة بِالْعَالَمِيْن، وَنُشِر الْخَيْر فِي الْأَرْض، وَالْسَّعْي لِإِقَامَة الْحَق وَالْعَدْل، وَالتَّعَاوُن مَع كُل الْنَّاس عَلَى الْبِر وَالْتَّقْوَى، وَالْتَّنَاهِي عَن الْإِثْم وَالْعُدْوَان.
وَفَضَائِل هَذَا الْبَلَد الْمُبَارَك وَخَصَائِصُه أَشْهُر مِن أَن تُذْكَر، وَمَا حَبَاه الْلَّه مِن الْنَّعَم وَالْخَيْرَات أَعْظَم مِن أَن يُحْصَر، وَتَارِيْخُه الْمُشْرِف مُنْذ عَهْد الْنَّبِي صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم إِلَى أَن اسْتَلَمَه الْخِيَرَة الْكِرْام مِن آَل سُعُوْد أَكْبَر مِن أَن يَخْتَصِر. فَلِلَّه الْحَمْد أَوَّلَا وَآخِرَا.
وَإِن الْإِنْجَازَات وَالإِصْلَاحَات الَّتِي تَمَّت فِي هَذَا الْبَلَد الْمُبَارَك مُنْذ تَأْسِيْسُه عَلَى يَدِي الْمُلْك عَبْد الْعَزِيْز آَل سُعُوْد طَيِّب الْلَّه ثَرَاه وَتَغَمَّدَه بِوَاسِع رَحْمَتِه تَجْعَل الْمَرْء حَائِرَا عَن مَاذَا يَتَحَدَّث، لِأَن الْإِنْجَازَات كَثِيْرَة مُتَنَوِّعَة، وَالإِصْلَاحَات بَل الْقَفْزَات الْحَضَارِيَّة تَشْمَل كُل جَوَانِب الْحَيَاة الْدِّيْنِيَّة وَالْدُّنْيَوِيَّة، وَالْمَشَارِيْع الِتَنمَوّيّة الَّتِي تُتَابِع عَلَيْهَا حُكَّام هَذِه الْبِلاد تَكَاد تَجِل عَن الْحَصْر وَالْعِد.
فَقَد شَهِدَت الْمَمْلَكَة الْعَرَبِيَّة الْسُّعُوْدِيَّة خِلَال سَنَوَات مَّعْدُوْدَات قَفَزَات حَضَارِيَّة وَتَنمَوّيّة مُذْهِلَة فِي شَتَّى الْمَجَالَات، وَحَقَّقْت فِي فَتْرَة وَجِيْزَة مَا حَقَّقَتْه دُوَل فِي مِئَات مِن الْسَنَوَات.
فَبِالْإِضَافَة لِلْمَكانَة الْدِّيْنِيَّة لِلْمَمْلَكَة الْعَرَبِيَّة الْسُّعُوْدِيَّة أَصْبَح لَهَا مَكَانَة سِيَاسِيَّة وَاقْتِصَادِيَّة وَثَقَافِيَّة وَحَضَارِيَّة مَرْمُوْقَة، وَبَعْد اسْتَرَاتِيجِي عَالَمِي مُؤَثِّر.
وَهَذَا مَا يَحْسُدُنَا عَلَيْه كَثِيْر مِن أَعْدَاء وَطَنِنَا وَأَمِتْنَا وَدِيْنُنَا، وَيَجْعَلُهُم يَسْتَمِيْتُوْن فِي إِعَاقَة مَسِيْرَتَنَا، وَإِيْقَاف تَقَدَّمْنَا، وَتَدْمِير مَصَالِحِنَا ومُكْتَسَبَاتِنا، وَتَحْطِيم وَحْدَتِنَا، وَإِثَارَة الْفِتْنَة بَيْنَنَا، وَزَعْزَعِة أَمْنَنَا وَاسْتِقَرَارَانَا، وَسَلَخْنَا عَن هُوِيَّتِنَا وَمَصْدَر عِزَّتِنَا، وَنَشْر الْفَسَاد فِي أَرْضِنَا، وَتَشْوِيْه أَخْلَاقُنَا وَقِيَمِنَا، عَبْر وَسَائِل شَتَّى، لَعَل مَن أَخْطَرُهَا الْغَزْو الْفِكْرِي الَّذِي يُسْتَهْدَف نُشِر الشُّبُهَات، وَالتَّشْكِيْك فِي مُسْلِمَات الْعَقِيْدَة وَثَوَابِت الْشَرِيعَة، وَكَذَلِك الْغَزْو الْأَخْلاقِي الإِفَسَّادِي الَّذِي يُسْتَهْدَف تَدْمِيْر الْقِيَم وَالْأَخْلَاق، وَنَشْر الْفَسَاد وَالْفُجُور، وَعِبَادَة الْأَهْوَاء وَالشَّهَوَات، وَالْتَّشْجِيْع عَلَى انْتِهَاك الْحُدُوْد وَالْحُرُمَات، وَإِشَاعَة الْفَاحِشَة بَيْن الْمُؤْمِنِيْن وَالْمُؤْمِنَات، وَتَرْوِيج الْخُمُور وَالْمُخَدِّرَات، وَإِشْغَال الْنَّاس وَخَاصَّة الْشَبَاب بِالتَّوَافِه وَالصَّغَائِر عَن مَعَالِي الْأُمُوْر وَمَكَارِم الْأَخْلَاق.
وَإِذَا كَان الْعُقَلَاء يَتَّفِقُوْن عَلَى أَن حُب الْوَطَن أَمْر فِطْرِي، وَغَريزَة مَرْكُوْزَة فِي نَفْس كُل إِنْسَان سِوَي، فَإِن حَب هَذَا الْوَطَن ـ الَّذِي هُو مَهْد الْإِسْلَام، وَقَلعَتِه الْحَصِينَة، وَإِلَيْه يَأْرِز إِلَى قِيَام الْسَّاعَة، وَهُو قِبْلَة الْمُسْلِمِيْن وَمَهْوَى أَفْئِدَتَهُم ـ دِيَن وَإِيْمَان، وَبُغْضُه كُفْر وَنِفَاق، إِن حُبَّه وَالْدِّفَاع عَنْه، وَحِمَايَة أَمِنَه وَمُكْتَسَبَاتِه، وَصِيَانَة مَصَالِحِه وَحُرُمَاتِه، وَاجِب شَرْعِي، وَفَرِيْضَة إِسْلامِيَّة، لَيْس عَلَى أَهْل هَذَا الْبَلَد وَالْمُقِيْمِيْن فِيْه فَحَسْب، بَل هُو وَاجِب عَلَى كُل الْمُسْلِمِيْن فِي كُل أَصْقَاع الْأَرْض، لِأَن بَقَاءَه بَقَاء لِلْإِسْلَام وَأَهْلِه، واحْتِلَالُه وَانْتِهَاك حُرُمَاتِه تَدْمِيْر لِلْإِسْلَام وَأَهْلِه، كَمَا قَال رَبُّنَا سُبْحَانَه: (جَعَل الْلَّه الْكَعْبَة الْبَيْت الْحَرَام قِيَاما لِّلْنَّاس)[الْمَائِدَة/97] أَي: بِه تَقُوْم مَصَالِحِهِم الْدِّيْنِيَّة وَالْدُّنْيَوِيَّة، وَلِهَذَا كَان مِن عَلَامَات الْسَّاعَة هَدَمَه بَعْد عِمَارَتِه، وَهُو إِيْذَان بِخَرَاب الْعَالَم وَنِهَايَتُه.
إِنَّنَا إِذ نَتَحَّدَث عَن الْيَوْم الْوَطَنِي لِهَذَا الْوَطَن الْغَالِي فَإِنَّنَا نُحَاوِل أَن نَسْتَحْضِر كُل الْقِيَم وَالْمَبَادِيء الَّتِي قَام عَلَيْهَا هَذَا الْكَيَان الْعِمْلاق، وَجَعَلَهَا دُسْتُوْرِه وَشِعَارُه، وَرَفَع بِهَا رَايَتَه، وَأَن نَتَذَكَّر كُل الْتَضَّحَيِات وَالْجُهُوْد الْجَبَّارَة الَّتِي صَاحَبَت بِنَاءَه وَتَوطِيد أَرْكَانِه، ثُم إِكْمَال مَسِيْرَة تَطْوِيْرُه وَتَنْمِيَتِه، لِنَعْبُر عَمَّا تَمْتَلِيء بِه قُلُوْبُنَا مِن مَحَبَّة وَتَقْدِيْر لِهَذِه الْأَرْض الْمُبَارَكَة، وَهَذَا الْوَطَن الْكَبِيْر وَقِيَمِه وَثَوَابِتِه وَخَصَائِصُه وَمَكَانَتُه الَّتِي مَيَّزَه الْلَّه بِهَا، وَلْنُعْلِن عَن حُبِّنَا الْصَّادِق وَدَعَوَاتِنا الْخَالِصَة لِمَن كَان لَهُم الْفَضْل بَعْد الْلَّه تَعَالَى فِيْمَا تُنْعِم بِه هَذِه الْبِلَاد مِن سَلَامَة فِي الْمَنْهَج، وَصِحَّة فِي الْعَقِيْدَة وَالْعِبَادَة، وَخُلُوْص مِن الْشِّرْكِيَّات وَالْبِدَع وَالْخُرَافَات، وَاعْتِزَاز بِالْدِّيْن وَحُكْم بِالْشَّرِيِعَة وَتَحَاكَم إِلَيْهَا، مِمَّا نَتَج عَنْه وَحْدَة نَادِرَة، وَتَلَاحُم عَجِيْب، وَأَمِن وَارِف، وَعَيْش رَغْيَد، وَمُنْجِزَات حَضَارِيَّة فَاقَت التَّوَقُّعَات، وَمَكَانَة مَرْمُوْقَة إِقْلِيميّا وَدُوَلِيّا.
إِن الْوَطَنِيَّة الْحَقَّة لَيْسَت بِرَفْع الْأَعْلام وَالشِّعَارَات، أَوَإِقَامَة الاحْتِفَالَات وَالمَهْرَجَانَات، وَلَا فِي تَرْدِيْد الْأَنَاشِيْد وَالْأَشْعَار الْوَطَنِيَّة، وَهِي مِن بَاب أَوْلَى لَيْسَت بِانْتِهَاك الْحُرُمَات، وَالْمُجَاهَرَة بِالْمُنَكَّرَات، وَالْتَسَكُّع فِي الْشَّوَارِع وَالطُّرُقَات، وَمُضَايَقَة الْنَاس فِي الْأَمَاكِن الْعَامَّة وَالْتَّجَمُّعَات، كَمَا يَفْعَلُه بَعْض الْجَهَلَة مِن الْشَّبَاب وَالْفَتَيَات، فَإِن الْتَّفَاخُر بِالْحَرَام وَالتَّبَجُّح بِه، وَالاسْتِهْتَار وَالِفِوْضويّة، وَإِشْغَال رِجَال الْأَمْن، وَإِيْذَاء الْنَّاس مَن الْمُوَاطِنِيْن وَالْمُقِيْمِيْن وَالْزَّائِرِيْن تُخْلِف وَجَهِل، وَظُلْم وَعُدْوَان، وَهِي مِن أَعْظَم مَا يُسِيْء إِلَى الْوَطَن وَيُشَوِّه سَمِعْتُه، وَلَن يَشْفَع لِأَحَد مِن هَؤُلَاء الْمُسْتَهْتَرَيْن زَعْمِه بِأَنَّه يَفْعَل ذَلِك احْتِفَاء بِالْيَوْم الْوَطَنِي وَابْتِهَاجا بِه، فَالاحْتِفَاء بِالْوَطَن يَعْنِي الْحِرْص عَلَى حِمَايَة مُكْتَسَبَاتَه، وَالُمَحَافَظَة عَلَى مَصَالِحِه وَحُرُمَاتِه، وَالْحَذَر مِن كُل مَا يُشَوِّه صَوَّرْتُه أَو يُسِيْء إِلَى سَمِعْتُه.
إِن الْوَطَنِيَّة الْحَقَّة تَعْنِي تَكَاتَف الْجُهُوْد وَتَفْهَم جَمِيْع الْمُوَاطِنِيْن وَالْمُقِيْمِيْن وَتَعَاوُنِهِم لِتَحْقِيْق الْآتِي:
أَوَّلَا: احْتِرَام دُسْتُوْر هَذِه الْبِلاد وَنِظَامِهَا الْقَائِم عَلَى الْكِتَاب وَالْسُّنَّة وَتَحْكِيم الْشَرِيعَة الْإِسْلَامِيَّة فِي جَمِيْع شُؤْون الْحَيَاة، فَأَي خَرْق لِهَذَا الْدُّسْتُور وَمُخَالَفَة لِلْقُرْآن الْكَرِيم وَالْسَّنَة الْنَّبَوِيَّة الْصَّحِيْحَة بِلَا عُذْر شَرْعِي مِن جَهْل أَو نِسْيَان أَو إِكْرَاه أَو تَأْوِيْل سَائِغ فَإِنَّه يُعَد خُرُوْجَا عَن الْوَطَنِيَّة الْحَقَّة، وَنَقْصَا فِي صِدْق الْوَلَاء لِهَذَا الْوَطَن وَقِيَادَتُه وَشَعْبُه.
ثَانِيَا: الْمُحَافَظَة عَلَى أَمْن هَذَا الْوَطَن وَوَحْدَتِه وَتَمَاسُكَه، وَحِمَايَة مَصَالِحِه وَمُكْتَسَبَاتِه، وَأَن نَكُوْن جَمِيْعَا جُنُوْدَا مُخْلِصِيْن لِهَذَا الْوَطَن، وَأَعْيُنَا سَاهِرَة لِحِمَايَة أَمِنَه، وَتَحْقِيْق طُمَأْنِيْنَتُه وَاسْتِقْرَارِه، وَأَن نَتَنَبَّه لِحِيِل الْمُتَرَبِّصِين بِه وَالْكَائِدِين لَه، وَأَن نَقْطَع الْطَّرِيْق عَلَى كُل الْجَهَلَة وَالْمُجْرِمِيْن دَاخِل مُجْتَمَعُنَا وَخَارِجَه مِن الْأَفْرَاد وَالْجَمَاعَات الَّتِي تَعْمَل بِسَبَب جَهِلَهَا أَو إِجْرَامِهَا عَلَى زَعْزَعَة الْأَمْن وَالاسْتِقْرِار، وَإِثَارَة الْفِتَن الْدَّاخِلِيَّة، وَضَرَب الْوَحْدَة الْوَطَنِيَّة الْقَائِمَة عَلَى الْعَدْل وَإِعْطَاء كُل ذِي حَق حَقَّه.
وَلَيْس أَعْدَاء وَطَنِنَا وَأَمِتْنَا وَدِيْنُنَا بِأَحْرَص عَلَى شَيْء حِرْصِهِم عَلَى إِثَارَة الْفِتَن وَالْصِّرَاعَات الْدَّاخِلِيَّة، وَرَفَع الْرَّايَات الْعُنْصُرِيَّة وَالْجَاهِلِيَّة، وَالْضَّرْب عَلَى وِتْر النِّزَاعَات الْطَّائِفِيَّة وَالْقَبَلِيَّة وَالْمَنَّاطِقِيّة، وَتَحْرِيْش الْنَّاس بَعْضَهُم عَلَى بَعْض، وَتَشْجِيعِهُم لِلْجَهَلَة وَالْظُّلْمَة مِنْهُم عَلَى تَخْرِيْب بُيُوْتَهُم بِأَيْدِيْهِم، وَتَدْمِير مَصَالِحِهِم ومُكْتَسُبَاتِهُم، لِأَنَّهُم يُدْرِكُوْن أَن هَذَا لَو حَصَل فَإِنَّه سَيُحَقِّق أَهْدَافِهِم فِي إِضْعَافَنا وَتَشْتِيت قُوَّتِنَا، وَالْسَّيْطَرَة عَلَى خَيْرَاتُنَا ومُكْتَسَبَاتِنا، وَتَدْمِير دِيْنِنَا وَأَخِلَّاقِنَا، وَسَيُوَفَّر عَلَيْهِم الْكَثِيْر مِن الْوَقْت وَالْجَهْد وَالْمَال وَالْدَّم، فَهُو أَكْثَر الْطُّرُق فَاعِلِيَّة، وَأَسْرَعِهَا فِي تَدْمِيْر الْمُجْتَمَعَات، وَهُو أَحَب الْأَشْيَاء إِلِى أَعْدَائِنَا، وَأَقَلُّهَا تَكَالِيْف بِالْنِّسْبَة لَهُم.
فَلَيْس شَيْء أَفْسَد لِلْمُجْتَمِعَات وَأَكْثَر إِضْعَافَا لَهَا، وَإِغْرَاء لِأَعْدَائِهَا بِهَا، مِن الْفِتَن وَالْنِّزَاعَات الْدَّاخِلِيَّة، وَرُبَّمَا يَلْبَسُوْنَهَا لَبُوْس الْدِّيْن وَالْغَيْرَة عَلَيْه وَالْدِّفَاع عَنْه، وَبِه يَخْدَعُوْن الْجَهَلَة وَالمُتَعِجُلِين مِن أَبْنَائِنَا، وَيَسْخِّرَونَهُم لِخِدْمَة أَهْدَافِهِم الخَبِيْثَة، وَخُطَطِهِم وَسِيَاسَاتِهِم الْمَاكِرَة، كَيْف وَالْلَّه تَعَالَى يَقُوْل: (وَأَطِيْعُوْا الْلَّه وَرَسُوْلَه وَلَا تَنَازَعُوَا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَب رِيْحُكُم وَاصْبِرُوَا إِن الْلَّه مَع الصَّابِرِيْن)[الْأَنْفَال/46]، وَيَقُوْل سُبْحَانَه: (وَاعْتَصِمُوْا بِحَبْل الْلَّه جَمِيْعا وَلَا تَفَرَّقُوٓا وَاذْكُرُوْا نِعْمَة الْلَّه عَلَيْكُم إِذ كُنْتُم أَعْدَاء فَأَلَّف بَيْن قُلُوْبِكُم فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِه إِخْوَانا)[آَل عِمْرَان/103]، وَيُحَذَرْنا نَبِيِّنَا صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم مِن ذَلِك فَيَقُوْل: "إِن الْشَّيْطَان قَد أَيِس أَن يَعْبُدَه الْمُصَلُّون فِي جَزِيْرَة الْعَرَب، وَلَكِن فِي الْتَّحْرِيْش بَيْنَهُم" رَوَاه مُسْلِم.
ثَالِثَا: الْشُّعُوْر بِالْمَسْؤُوْلِيَّة وَعَظُم الْأَمَانَة الَّتِي يَتَحَمَّلُهَا كُل فَرْد مِن أَفْرَاد الْمُجْتَمَع، فَكُل مُحَاسَب عَن عَمَلِه، وَمَسْؤُول عَن إِصْلَاح نَفْسِه وَمَن تَحْت يَدِه، وَكُل فَرَد فِي هَذَا الْوَطَن لَه قِيْمَتَه وَقَدْرُه، وَهُو لَبِنَة مِن لَبِنَات بِنَائِه يُؤْثَر فِيْه سَلْبَا أَو إِيْجَابِا، فَيَجِب أَن يُدْرِك وَاجِبَه تُجَاه دِيْنِه وَوَطَنِه، وَأَن نَجَاحِه وَإِبْدَاعُه فِي عَمَلِه وَكَسْبُه يُصَب فِي مَصْلَحَة وَطَنِه وَيُقَوِّيه، وَأَن فَشَلِه يُضْعِفُه وَيُشْقِيه.
فَيَجِب أَن يَجْتَهِد كُل مَوَاطِن فِي تَّأْهِيْل نَفْسِه وَالْرُّقِي بِهَا، دِيْنِيّا وَثَقَافِيَّا وَاقْتِصَادِيا، وَالْحِرْص عَلَى الْنَّجَاح وَالْتَّفَوُّق، وَإِجَادَة الْعَمَل وَإِتْقَانِه، كُل فِيْمَا يَخُصُّه وَيُنَاسِب قُدُرَاتِه، فَكُل مُيَسَّر لِمَا خُلِق لَه، وَكُل مُوَاطِن عَلَى ثَغْر مِن ثُغُوْر هَذَا الْوَطَن، فَاللَّه الْلَّه أَن يُؤْتَى الْوَطَن مِن قَبْلِه.
رَابِعَا: الْمُشَارِكَة فِي إِصْلَاح الْمُجْتَمَع وَتَزْكِيَتِه وَالْرُّقِي بِه، وَتَنْقِيَتُه مِن الْأَمْرَاض وَالآَفَات الَّتِي تُفْسِدُه وَتَضَعَّفَه، أَو تُسْتَجْلَب عَلَيْه سَخَط الْلَّه وَمَقْتُه، وَالْمُسَاهَمَة الْفَاعِلَة فِي صِنَاعَة التَّطَوُّر الْحَضَارِي، وَدَعَم الْبُنَى الاقْتِصَادِيَّة وَالاجْتِمَاعِيَّة وَالْثَّقَافِيَّة الَّتِي تُحَقِّق نَقَلَة حَضَارِيَّة لِلْوَطَن وَأَهْلَه.
وَمَن أَخْطَر مَا يُهَدِّد الْأَوْطَان وَالْمُجْتَمِعَات انْتِشَار الْخُمُور وَالْمُخَدِّرَات، حَيْث تُشَل حَرَكَة الْمُتَعَاطِين لَهَا، وَتُقَلِّل نَفَعَهُم وَإِنْتَاجِهِم، وَتَعْصِف بِقِيَمِهِم وَأَخْلَاقِهِم، وَتَسْلْبِهُم دِيْنَهُم وَشَهَامَّتِهُم، بَل وَتَجْعَلُهُم عَالَة عَلَى مُجْتَمَعُهُم، فَيَخْسَر الْكَثِيْر مِن أَجْلِهِم، وَيَنَالُونَه بِأَنْوَاع مِن الْظُّلْم وَالْأَذَى، فَجَمَعُوا عَلَى وَطَنِهِم مُصِيْبَتَيْن كَبِيْرَتَيْن: خَسَارَتِه لَهُم ولإِنتِاجِهُم، وَظُلْمِهِم لَه وَعُدْوَانِهِم عَلَيْه!! وَالْمُتَأَمِّل فِي تِلْك الْكَمِّيَّات الْمَهُوْلَة الَّتِي يُرَاد تَرْوِيْجِهَا فِي بِلَادِنَا الْمُبَارَكَة يُدْرِك أَنَّنَا أَمَام حَرْب شَرِسَة، وَأَن تَرْوِيْج الْمُخَدِّرَات وَالْمُتَاجَرَة فِيْهَا، وَتَعَاطِيُّهَا وَنَشَرَهَا بَيْن أَبْنَائِنَا وَبَنَاتِنَا مِن أَعْظَم مَدَاخِل الْأَعْدَاء عَلَيْنَا، وَمِن أَكْبَر أَبْوَاب حَرْبِهِم لَنَا، وَسَعْيُهُم لِتَدْمِير دِيْنِنَا ومُكْتَسَبَاتِنا.
خَامِسَا: كُل مُوَاطِن صُوْرَة عَن وَطَنِه وَّأُنْمُوْذَج لَه يُعَبَّر عَنْه أَمَام الْمُقِيْمِيْن وَالْزَّائِرِيْن، وَهُو سَفِيْر لِوَطَنِه حِيْن يَكُوْن مُسَافِرَا لِبَلَد آَخَر، فَأَي تَصْرِف يُصْدِر مِنْه سَيُحْسَب عَلَى وَطَنِه سَلْبَا أَو إِيْجَابِا، فَكَان حُسْن الْخُلُق، وَالْإِحْسَان إِلَى الْخَلْق، وَطِيْب الْمُعَامَلَة، وَدَمَاثَة الْمُعَاشَرَة، وَالْصِّدْق وَالْأَمَانَة، وَالْوَفَاء بِالْعُهُوْد وَالْعُقُود، وَالْغَض عَن الْحُرُمَات، وَالتَّجَافِي عَن الْفَوَاحِش و الْمُنْكَرَات، مِن أَعْظَم مَا يُسْهَم فِي تَحْسِيْن صُوْرَة وَطَنِنَا وَدِيْنُنَا، وَنَسْتَجْلّب بِه مَحَبَّة الْنَّاس وَتَقْدِيْرِهِم لَنَا، وَاحْتِرَامَهُم لِدِيِنِنَا وَقِيَمِنَا.
سَادِسا: إِن الْمَكَانَة الْكَبِيْرَة الَّتِي هَيَّأَهَا الْلَّه لِبِلَاد الْحَرَمَيْن الْشَّرِيِفَيْن: الْمَمْلَكَة الْعَرَبِيَّة الْسُّعُوْدِيَّة، جَعَلَهَا مَحَط أَنْظَار الْعَالَم، وَمَحَل اهْتِمَامِهِم، وَهِي وَإِن كَانَت نِعْمَة جَلِيْلَة فَإِنَّهَا فِي ذَات الْوَقْت أَمَانَة ثَقِيْلَة، وَمَسْؤُولِيَّة عَظِيْمَة، كَمَا قَال رَبُّنَا سُبْحَانَه: (وَإِنَّه لَذِكْر لَّك وَلِقَوْمِك وَسَوْف تُسْأَلُوْن)[الزُّخْرُف/44]، فَهَذَا الْدِّيْن، وَتِلْك الْخَصَائِص الَّتِي امْتَن الْلَّه بِهَا عَلَيْنَا عَز وَشَرَف وَكَرَامَة لَنَا، وَهِي مَحَل فَخْرُنَا وَاعْتِزَازِنَا، وَلَكِنَّنَا سَنُسْأَل عَن شُكْرِهَا وَالْقِيَام بِحَقِّهَا، مِن الْتَّمَسُّك بِهَذَا الْدِّيْن وَحَمْلِه وَتَبْلِيْغِه لِلْعَالَمِيْن.
وَبَالَشَّكْر تَدُوْم الْنِّعَم وَتَزِيْد، وَأَعْظَم نَعَم الْلَّه تَعَالَى عَلَيْنَا أَن هَدَانَا لِلْإِسْلَام، وَفُضِّلْنَا بِهَذَا الْدِّيْن عَلَى سَائِر الْأَنَام، وَجَعَلْنَا مِن بِلَاد الْإِسْلَام وَالْسَّلام، وَأَهْل بَيْتِه الْحَرَام، وَجَعَل حُمِّل هَذَا الْدِّيْن وَتَبْلِيْغِه لِلْعَالَمِيْن أَمَانَة فِي أَعْنَاقِنَا، فَكَان مِن أَوْجَب الْوَاجِبَات عَلَيْنَا قَادَة وَشَعْبَا أَن نَجْتَهِد فِي خِدْمَة الْحَرَمَيْن الْشَّرِيِفَيْن وَتَعْظِيْم حَرَّمَتْهُمَا، وَتَوْفِيْر الْأَمْن وَالْرِّعَايَة وَحُسْن الْمُعَامَلَة لضُيُوَفَهُما مِن الْحَجَّاج وَالْمُعْتَمِرِيْن، وَأَن نَعْمَل جَاهِدِيْن عَلَى هِدَايَة الْخَلْق وَنَشْر الْدَّعْوَة الْإِسْلَامِيَّة، وَإِسْعَاد الْبَشَرِيَّة، وَخِدْمَة الْإِنْسَانِيَّة، لِأَنَّنَا فِي خَيْر الْأَوْطَان: وَطَن الْعِز وَالْشُّمُوْخ، وَطَن الْبَذْل وَالْعَطَاء، وَطَن الْخَيْر وَالْبِر، وَطَن الْإِسْلَام
وَالْسَّلام. وَالْحَمْد لِلَّه الَّذِي بِنِعْمَتِه تَتِم الْصَّالِحَات.