الدكتور/محمد بن حمدان المالكي
شاعر وصحفي
- إنضم
- 6 يوليو 2007
- المشاركات
- 1,636
- مستوى التفاعل
- 43
- النقاط
- 48
خمسة فصول من رواية
لمحمد بن حمدان المالكي
لمحمد بن حمدان المالكي
[URL="http://bajeelah.net/up/uploads/6a39ab659e.jpg"][URL="http://bajeelah.net/up/uploads/6a39ab659e.jpg"]
[/URL][/URL]
1
جبل جُمْح
يبرز جبل ( جمْح ) الشامخ للناظر من مسافات بعيدة رغم التفاف الجبال من حوله ، وتنتصب هضبة ( حجر لقمان ) في قمته كالحارس الأمين ، حيث يطل على قريتي ( حدّاد ) من الجهة الشرقية وقد كساه الوقار بوشاحه الأخضر ..
لم يكن جبل جمح الوحيد في قبيلتي بني مالك بجيلة ، ولكنه من الجبال التي ميزها موقعها المميز زماناً ومكاناً ..
ولم يكن جبل جمح مجرد تراب وحصى وأشجار في ذاكرة أهل قريتي ، إنما كان تاريخاً شامخاً تشهد عليه تلك الحصون الرابضة على صدره وفي مقدمتها حصن ( خُرِيص ) ..
ولم يكن اختيار مقر بناء القرية عبثاً ، فمكانها الاستراتيجي الواقع في الجهة الشرقية من جبل جمح وعلى تلٍ يحتضنه الجبل يطل بدوره من الجهتين الشرقية والشمالية على المدرجات الزراعية الخضراء ، ومن الجهة الغربية على ساحة كبيرة تعد مقراً لسوق حداد أو ما يسمى سوق الأحد ، فضلاً على كون الموقع متوسطاً بين القرى المجاورة : الحُصَبة والحميّان والمحارزة من الجهة الغربية ، والصوّاغة من الجهة الشمالية ، والعُقدة والجهالين من الجهة الشمالية الشرقية ، وروان من الجهة الشرقية ، والنفَلة والبناة من الجهة الجنوبية ..
وفي مدخل القرية من الجهة المقابلة لجبل جمح ينتصب منزلنا المسمى ( صعبة ) شامخاً في أدواره الثلاثة المبنية من الحجر ليحكي كل حجر قصة تاريخٍ مضى بحلوه ومره ..
بُني من الحجر الخالص ، وذلك بردم الأحجار على بعضها البعض في وضع متناسق وموزون في جدار عرضه قرابة المتر وربما يزيد قليلاً ، وهو ما يسمى ( المدماك ) ، ويسمى الدور الأرضي ( سفل ) بحيث يوكون - عادة - مخصصاً للحيوانات من بقر وحمير وأغنام وتخزين أعلاف ، أما الأدوار العلوية فهي مخصصة للسكن ..
وفي ( صعبة ) خصص الدور الثاني لغرف النوم المصمتة والمسماة ( الداخلة ) ، أما الدور الثالث فقد قسم إلى حجرتين فصل بنهما بألواح خشبية عريضة تسمى ( الترسيل ) ..
ومن يريد الصعود إلى الدور الثالث أول ما يقابله على يساره باب المجلس الخشبي ، ومجلسٍ يحتوي على نافذتين غربية وشمالية تسمى كل منهما ( خِلْف ) ، وقد ارتصت جذوع أخشاب العرعر الغليظة في سقفه غير المرتفع تتكئ على عمود غليظ من الخشب على شكل حرفT يسمى ( الزافر ) والخشبة المعترضة في أعلاه ( السارية ) ، وإذا تركت باب المجلس على يسارك واتجهت إلى الأمام تجد باباً خشبياً ينفذ إلى فسحة غير كبيرة على يمينها باب صغير لا يتجاوز ارتفاعه متر و30 سم وعرضه قرابة 70 سم ينفذ إلى الحمام الوحيد في المنزل ، ويوجد في أطراف الفسحة حنفية دائرية من الزنك تتسع لـ 20 لترا من الماء تقريباً ، وبجوارها إناء فخاري يتسع لـ 5 لترات من الماء تقريباً ، ومن هذه الفسحة يستطيع الناظر رؤية جبل جمح جلياً أمامه ، وأكثر ما تكتحل به العين في فصل الربيع عندما تزهر أشجار اللوز البيضاء المتشح بها الجبل فيظهر للناظر وكأن الجبل مكسواً بالثلج ، وفي الجهة اليسرى من الفسحة باب خشبي ينفذ إلى حجرة تسمى المشب ، والذي يحتوي على موقد نار يشعل فيه الحطب لطهي الطعام ، وفي جداره الشمالي فتحة طولها 40 سم وعرضها 30 سم في عمق 40 سم لوضع بعض الحاجيات فيها تسمى ( قُترة ) ، وفي سقف المشب نافذة تسمى ( القُترة العلوية ) تنفذ إلى سطوح المنزل لينفذ الضوء والهواء إلى المشب ولخروج الدخان ، وتقفل في المساء بوضع صحن فوقها ومن فوقه حجر ثقيل لكي لا يزيحه الهواء ، وتحت القُترة عمود خشبي كانت والدتي – رحمها الله – تربط فيه حبلاً تربط طرفه الآخر بثوبي من الطرف الأسفل عندما كنت طفلاً لكي لا اسقط في الموقد أثناء عملها في المنزل ..
وقد بدا سقف المشب أسوداً تماماً لتراكم الكربون الأسود عليه لكثرة إشعال النار ، وهو ما يسمى ( الوار ) ..
أما الجدران فقد وضع عليها الجبس الأبيض وطليت بما يسمى بـ ( النورة ) ، وهي مادة بيضاء توجد في الجبال تشبه الجبس المتخثر ، حيث تطحن ويضاف لها الماء وتطلى بها الجدران ..
2
أقراص الصاج
أما قريتي الحالمة الرابضة على صدر الغيم ، ففيها يتناغم غناء العصافير مع شذا الشجيرات العطرية :
البعيثران والبردقوش والشار والريحان ..
تلك الشجيرات التي كستها بَرَكة كفوف والدتي نورة بنت عوض – رحمها الله – الحانية ، عندما غرستها قبل أيام قليلة بأناملٍ تحددت بحمرة الحناء المشرئب بالسواد ، بعد أن طلبت من والدي - رحمه الله - كسر باب الصندوق الحديدي القديم الذي كان يستخدم لحفظ الملابس والحاجيات الصغيرة لاستخدامه حوضاً لزراعة البعيثران والبردقوش ، وما هي إلا أياماً حتى فاح شذاها وقد أُثقلت أوراقها الحبلى بقطرات الندى الهارب من صقيع الليل ..
وعندما تسللت خيوط الشمس الذهبية هوت على وجه الثرى مقبلة ثغره لترتفع تلك الأوراق كفوفاً داعية مسبحة للخالق الرزاق ..
عندها أخذ جبل ( جمْح ) الذي عانق الغيم بشموخه يتثاءب ويدفع بصدره سرايا الضباب الرمادية التي أفاقها من سباتها بعد أن نامت في عباءته الخضراء طوال الليل لتتبدد كأن لم تغن بالأمس ، وأخذت أغصان العُثرُب والشذاب والنيِم والسُّعبُق والشث والعرعر ... تتنفس خيوط الشمس الذهبية ، وقد داعبتها رياح الصبا فاستجابت أغصانها وأخذت تتراقص متناغمة مع ذعذاع النسيم وتغريد طيور الوجّي والعُصيفرة وأبو غريراء والقمرية والقارورة ... ، بعد أن شق تناغمها نعيق الغراب وصياح الحديّا ونهيق الحمار ، وخوار الثيران ..
وفي المقابل أخذ رنين النجْر يفتفت ما تمطى من بقايا النوم في جسدي النحيل المقبل على عامه السابع والمندس في ثنايا اللحاف القطني الثقيل ..
أخذ صوت والدتي يتسلل إلى أذني :
- يا الله قم أنا فداك ، قم عشان نشيل الفراش ، أبوك بيرجع من المسيد ( المسجد ) عشان نحط له الفطور ويلحق السوق ، قم أنا فداك قم ..
ياااااااالله ما أعذب ذلك الصوت الدافئ عندما ينساب في مسمعي ليصل إلى قلبي بدون حواجز – افتقدت ذلك الصوت وافتقدت معه لذة الحياة - ، حينها انفضُ ما تبقى من النوم بتثائبةٍ طويلةٍ وهرشٍ لشعر الرأس المثقل بالنوم وبقايا الرمل المتبقي من مغامرات اليوم السابق ..
وبصوتٍ مثقل بالنعاس أنادي :
يمّه جيعااااااااان ..
فتقطع جوع صوتي بعسل إجابتها :
- تعال يا حبيبي كل من كبدي .. أنا فدا كبدتك ..
حينها أسد جوع قلبي بخبز حنانها ..
وأملأ رئتي بدفق حبها ..
ويأخذني روتين الإفاقة لأكتشف أنحاء الحجرة الحجرية بعيني الصغيرتين كعادتي كلما أصحو من النوم ، وأمر في مشوار اكتشافي على الزاوية التي تكون فيها والدتي وهي تتجه إلى طبقٍ مصنوع من سعف النخل قد غطي بقطعة قماش بيضاء ثقيلة وتخرج لي قرصاً صغيراً ممسوحاً بالسمن قد صنعته قبل أن أصحو من سباتي ..
صنعته على الصاج في الصباح الباكر ، بعد أن أشعلت النار في عيدان الطلح اليابسة ، وأخذت تنفخ في شجر العرفج ليشتعل تحت أعواد الطلح ، فيمتلئ المكان بأعمدة الدخان ، وما يلبث أن يزول باشتعال النار ، ومن ثم أقربت العجين المصنوع من دقيق البر البلدي ، فاقتطعت كرةً منه بحجم قبضة اليد وألقتها على الصاج ، ثم بللت كفها بقليل من الماء وأخذت تفرد العجين على وجه الصاج الملتهب حتى يتمدد ، فرققت وسطه وسمّكت أطرافه ، عندها فاحت رائحة الخبز الناضج لتملأ المشب المثقل سقفه بطبقات ( الوار ) الأسود ، وما هي إلا لحظات حتى أمالت الصاج في وضع رأسي لكي تصل حرارة النار وجه القرص ، فأصبح لونه كالشفق ، عندها نزعته بالمقرشة وألقته في الطبق السعفي وألقت عليه قطعة القماش الثقيلة ليحفظه ساخناً .
لكنها لم تنس أن قلبها الصغير محمد يعشق الأقراص الصغيرة ؛ لذلك رفعت غطاء إناء العجين واقتطعت قطعة منه في حجم نصف قبضة اليد ، ومن ثم ألقتها على الصاج لتصنع لي قرصاً صغيراً يشعرني بالخصوصية ومدى الاهتمام ، ومن ثم مسحت الأقراص بالسمن البلدي المعطر بالريحان والمختلط بالخلاصة ، فأخذت أنهش قرصي الصغير وأشرب من اللبن البقري الذي أعدته والدتي بالأمس ، وعين والدتي ترمقني وتظللني رموشها بدفء الحنان : - بالعافية .. كل .. كل أنا فداك عشان تصير رجّال ..
كلمات لا زالت تشدو في أذني موسيقى ..
وتنسل إلى قلبي طمأنينة ..
وتتشجّر في جسدي كالبلسم ..
وتملأ عيني ضياء ..
اقتات عليها كلما هب نسم الذكرى العليل المعطر برائحة البردقوش والبعيثران والريحان ..
3
البهم
أثناء الإفطار تسلل إلى أذني صوت صديقي الحميم محمد عيضة وهو يعطيني الإشارة بوجوده في المساريب ( أزقة القرية ) ، وذلك بتصفيرة متقطعة يكررها حتى آتي إليه على وجه السرعة ، حينها أصابني القلق فأخذت بقية القرص في يدي وانطلقت أركض ناحية الباب ، ووالدتي تنادي :
- أقعد افطر يا ولدي .. كمّل فطورك يا روحي ..
وأنا أذني معلقة بتصفيرة صديقي محمد عيضة ..
انسللت من الدرج كالسهم ، وإذ به واقف في المسراب ينتظرني ..
وضعت يدي على كتفه من خلف عنقه ووضع يده كذلك ، وقد قاسمته القرص الممسوح بالسمن ، وانطلقنا في رحلة الحلم الجميل نحو اللهو غير المنظم ، وفي الطريق التقينا بابن خالي عوض وأصحاب الحلم الجميل : خالد محمد وعلي عيد وأحمد هنيدي وسعد الرويس ، وذلك في موقعنا المفضل ( قهوة غزايل ) ، وهو عبارة عن عتبة باب نجلس عليها يظللها عريش من أخشاب العرعر ، ذلك الباب الذي أغلق على أحداث تاريخية واجتماعية ، لكونه كان يستخدم حبساً للمخالفين إبان بداية الحكم السعودي ، فكم ضجت جدران هذا الحبس بأنين المسجونين وجلجلة السلاسل ، وكم كانت شاهداً على مسافات بوحهم ..
وتضاريس همومهم ..
ودموع ندمهم ..
إلا أننا كنا نستشرف عناوين تلك الأحداث ونسترقها من أحاديث آبائنا عندما يتحدثون عنها كماض ذهب بخيره وشره ..
يمر الوقت ونحن في قهوة غزايل نفكر في طريقة نلهو بها في ذلك اليوم ..
وبينما نحن في خضم التفكير على بوابة ذلك الحبس الحجري الذي كساه الزمن حلة الوقار ..
وهيبة الشموخ ..
ورمز القوة ..
صدح في مسمعي نداء والدتي :
- يا محمد .. تعال وأنا أمك .. اسرح بالبهم ( صغار الضأن ) ..
كانت فرحة غامرة بهذا الأمر ، فالبهم تمثل لي عالماً ممتعاً من اللهو ..
طويت تفكيري وألقيت به على أصحابي ، وعدت إلى المنزل وساقي تسابق الريح ..
تناولت مطرقاً من أغصان شجر الرمان وأخذت أهش به على قطيع البهم ، إلا أن حرص والدتي الشديد على قلبها الصغير وعلى البهم حاصرني بسيل من الوصايا :
- انتبه للبهم وأنا أمك ..
- لا تجلس تلعب وتترك البهم ..
- لا تخليها تدخل في بلاد الجماعة ..
- لا تهجِل البهم ( لا تجعلها تركض بشدة )..
- ارجع بالبهم قبل صلاة الظهر ..
- لا تقلّب الحصى تحتها عقارب ..
- لا تجلس تطرد العصافير وتهمل البهم ..
- انتبه وأنا أمك .. انتبه خلك رجال ..
- يا الله تحفظ وليدي .. يا الله تخليه ..
- تعال اسلّم عليك ..
عندها ختمتْ جوقة هذه الوصايا بقبلتين قويتين استنشقتني من خلالهما وأدخلتني عطراً إلى جوفها ، ومدت لي منديلاً يحتوي على كسرة خبزٍ يقوم مقام البسكويت لآكلها عند جوعي ، وقد أرسلت معها جرعة من الحنان ..
انطلقت وأمامي قطيع البهم أسوقه بعصا الرمان ، وخلفي والدتي وهي واقفة ترمقني بعينيها الحنونتين ، والأمل يراودها بأن أصبح يوماً من الأيام في مكانة تفخر بها ، وقد لفّت رأسها بمسفع عرضين ( طرحة كبيرة يُغطى بها الرأس ) قد غطى معظم جسمها حتى بدى كالشرشف الذي يجللها ، وأخذت جزءاً منه لتغطي به طرفاً من وجهها وقد رسم خضاب الحناء على كفيها لوحة الوفاء والحنان والعطاء ..
ولكنني ما إن غبت عن مدى عينيها حتى مارستُ هواياتي التي حذرت منها والدتي !!
4
مغيضة المؤذن
أخذت البهم تلتهم العشب الأخضر ، وأخذتُ ألتهم قطعة الخبز قبل أن تبرد وأمامي يتراقص عصفور صغير اسمه ( ملهّي الرعيان ) ، وهذا العصفور قادراً على سحب الراعي مسافات طويلة دون أن يشعر ، فقربه الشديد يوهم بسهولة اصطياده باليد المجردة ، فكلما حاول الراعي اصطياده انتقل إلى الشجرة التالية حتى يبتعد عن مكان رعي غنمه وهو لا يشعر .
استطاع ملهّي الرعيان اصطيادي ولم انتبه حتى ولجت البهم في غمائر الولجة ، تلك المدرجات المزروعة في سفح جبل جمح ، والتي كانت تموج بعناقيد العنب وثمار الحماط والفركس والرمان .
انصببت أركض كالمجنون خوفاً من أن تعيث البهم في الزرع ، فانتزعتها دون أن يشعر بي أحداً وعدت إلى تل صخري تتخلله الأعشاب يطلق عليه الصافح .
ومن ثم بدأت أمارس هواياتي المفضلة : العقرب ومصاص الدماء .
أخذت أقلب الأحجار .. أتلمس العقارب .. أتقصى أثر الخنافس السوداء ، وكلما وجدت عقرباً أمسكت بها بعود صغير ووضعت فوق ظهرها الخنفس الأسود لكي استمتع بأبدع المشاهد ، عندما يقوم الخنفس بمص دم العقرب ، وهي تحاول ضربه بشوكتها البارزة في رأس ذنبها ، ولكن جسم الخنفس المدرّع يحميه من لسعتها ، فيأخذ في مص العقرب حتى تيأس .. تذبل .. تموت .
عندها آخذ في تكرار المشهد كلما قبضت على عقربٍ ودعوت مصاص الدماء لوجبته الدسمة .
إلا أنني لم أنس ملهّي الرعيان لذلك نصبت له ( مرتَمَة ) ، والمرتمة عبارة عن حجر مسطح قطره حوالي 15 سم أضعه في وضع مائل بحوالي 40 درجة ، بحيث يرتكز على عود نحيل يسهل سحبه ، وفي العود تُربط دودة حية لكي يراها العصفور عندما تتحرك ، وتحت الحجر تُحفر حفرة صغيرة لكي يسقط العصفور فيها إذا هوى عليه الحجر دون أن يصيبه أذى ، ومن ثم آخذ مكانا قريباً اختبئ فيه يسمح لي بمراقبة المرتمة ، وعند صيد العصفور انطلق وأخرجه من الحفرة وقد أطبق عليه الحجر ، هنا أقوم بنتف أجزاء من ريش أجنحته لكي لا يتمكن من الطيران ، ومن ثم أضعه في جيبي ، وبعدها هو وحظه ، فربما أجلس عليه دون أن أشعر فيصبح قاعا صفصفا لا ترى فيه عوجا ولا أمتا ، وربما يسعفه الحظ ويعود سليماً إلى المنزل لتأكله قطتي المدللة .
وبينما أنا في غمرة لهوي ولعبي ونسياني لملاحظة البهم إذ بصوت مغيضة المؤذن يناديني .. ينبهني .. :
- إنت ليش ما تنتبه للبهم ما رديتها إلا من غماير الدبادبة ، والله لو دريَت عنك عمّتي نورة إنها لتقطّع أذانيك ..
عندها تذكرت أن لي بهماً أرعاها ، ولكن مغيضة المؤذن أخذت تقترب مني - وهي فتاة في الرابعة عشر من عمرها ، وقد أطلقنا عليها لقب المؤذن ، لأنها إذا صعدت الجبل يأخذها الحماس وتؤذن في غير أوقات الصلاة ، إلا أنها كانت تغضب من ذلك اللقب ، ولم نكن نتردد في تجريح مسامعها بتلك الكلمة كلما سنحت الفرصة وكان هناك مجالا للهرب ، ولكوني قريباً منها فقد ذخرت هذه الكلمة حتى وقت آخر !! - .
جلستْ على حجر أمامي وأخرجت صرةً فيها زبيب أسود ومدت لي هبشةً ( ملء الكف ) منه وقالت :
- كُل ، ولا عاد تناديني مغيضة المؤذن ..
أكلتُ ، ولكنها تذكَرت أنني قلت لها بالأمس :
- يا مغيضة المؤذن ..
دفعها حب الانتقام للاقتراب مني لمعاقبتي ..
قرأت نيتها المرسومة على وجهها فتناولت العقرب الميتة ورميتها عليها فذهبت تصرخ :
- والله لعلّم عليك عمتي نورة ، والله لعلّم عليك عمتي نورة ..
جمعت البهم ، ثم أرسلتها أمامي في طريق العودة إلى المنزل ، وقد عادت البهم سالمة - ولله الحمد - إلا مما حذرتني منه والدتي !!
5
العجوز الخطّاطة
عدت إلى المنزل قبل صلاة الظهر محملاً ببعض الشقاوة والعصافير والخنافس وهبشَة من البراءة استعين بها عند الحاجة ..
أدخلت البهم داخل الحوش وحناجرها الصغيرة تعزف أجمل مقطوعة موسيقية لم يعزفها بتهوفن ( عدنا بالسلامة ) !!
صعدت إلى والدتي فوجدتها مشغولة بالترحيب بامرأة عجوز أتت من أطراف البادية التي تحيط بديار قبيلتي بني مالك بجيلة ، وقد بسطت ساقها الأيمن تحت مقعدتها والآخر نصبته ، وبيدها عكازاً طويلاً ترى في تعرجاته تفاصيل الماضي ، وقد بدت يدها نحيلة متشجرة بعروق زرقاء تغطيها طبقة الجلد الرقيقة المتكسرة ، وعلى أطراف أصابعها النحيلة المتشققة بقايا سواد من خضاب الحناء ، وفوق رأسها جلال أحمر ثقيل متسخ يلامس الأرض ، وقد غطّت نصف وجهها بلثام من طرف شيلتها السوداء كثيرة الثقوب ، حيث حوى نصف وجهها الأعلى عينين غائرتين بهت لونهما عليهما مسحة كحل متخثرة ، وتقاسيم وجه بالية قد أكل عليها الزمن وشرب ..
أخذت تبادل والدتي أطراف الحديث ، ووابل الحكمة يهمي ..
يتناثر من كلامها العذب المثمر ..
وأنا أراقب ..
أستشرف ..
أتأمل المشهد من عتبة باب المجلس ..
والدتي :
- من أكثر واحد من عيالك تحبينه يا عمّة ؟
العجوز :
- وليدك إذا كان صغيّر مسكاً تشمّينه .. وإذا كبر صعباً تلاوينه .. وإذا تزوّج شدي ولا تنازلينه ..
مدت والدتي فنجالاً في حجم كوب القهوة التركية مخططاً باللونين الأزرق والأحمر ، وهذه الفناجيل عادة لا يشرب فيها القهوة إلا كبار السن ، مدبجة بباقة ترحيب وإجلال ..
احتست القهوة ، أمالت يدها التي تمسك بها العكاز لتميط به جزءا من اللثام لتتمكن من شرب القهوة ، بدت شفتاها المتشققة الخالية من ( السليكون ) وجزء من ناب طويل في الناحية اليسرى من فيها يبدو وحيداً في ذلك التجويف الخالي إلا من الحكمة ..
وضعت الفنجال ، ومدت يدها النحيلة لثلاثة صحون تزبّرت باللوز البجلي والزبيب والتمر ..
التفتت نحوي والدتي :
- أدخل أنا فداك .. أدخل ..
العجوز :
- هذا ولدك ؟
- محمد .. أصغر عيالي ..
- تعال وأنا جدتك أخُط لك ( الخط : نوع من الكهانة يدعى فيه بعلم الغيب )..
- لا يا عمّه .. إنحن ما نخط لعيالنا ..
- بُصرِك ( أنتِ وما تريدين ) ..
رحلت العجوز وقد دست لها والدتي بعض الدريهمات في يدها مصحوبة بقولها :
- أعذريني يا عمّة على التقصير ..
رحلت وقد زرعت في ذاكرتي بعض تجارب الزمن الجميل ..
بعض درر الحِكَم الخالدة ..
رحلت ولا زالت خلف عينيها الغائرتين أسراراً وأنّاتاً وأفراحاً وأتراحاً طواها الزمن في جلالها الأحمر ..
الرواية تتكون من أكثر من 30 فصلا ستكون في الأسواق عما قريب إن شاء الله
كما أرجو التكرم بإعطائي مقترحا لعنوان الرواية فأنا حائر حتى الآن في عنوانها
التعديل الأخير: