إشراقة القرآن وإعجازه

أبو سالم

القلـــــم الرصيـــــن
إنضم
7 أبريل 2010
المشاركات
181
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
إشراقة القرآن وإعجازه


ينبغي أن نعترف ابتداء بأن عناية الله قد أحاطت بهذه اللغة العربية حين عزلتها طيلة العصر الجاهلي داخل أسوار الجزيرة العربية لا تتصل بجاراتها إلا من فصل إلى فصل عبر رحلة الشتاء والصيف من ناحية و عبر وفود الحجيج والتجار التي كانت تأتي إلى مكة في الموسم من ناحية أخرى ولم تكن هذه الاتصالات بكافية لإحداث تغير عميق في اللسان العربي بقدر ما كانت تترك بعض بصماتها على استعمالاتها أو على ألفاظها ، كان البطء طابع كل شيء في دنيا العرب آنذاك .


ولو قدر للحياة العربية أن تبقى على هذه الحال لما تجاوزت العربية تلك المرحلة الجاهلية خلال القرون التالية إلا بمقدار بسيط ولبقي العرب أمة جاهلية كما كانوا إلى أن يأذن الله بتفجر هذا الركود في صورة أو أخرى .


وقد اختار الله سبحانه أن يحدث هذا التفجير في إبانه حين بعث محمدا – صلى الله عليه وسلم – بدين الإسلام وجعل معجزته القرآن المعجزة اللغوية الوحيدة بين معجزات الأنبياء . ولقد كان القرآن بحق انفجارا هائلا – إن جاز التعبير – رج أنحاء الحياة العربية على اختلاف مستوياتها ولا سيما الجانب اللغوي والبياني فقد واجه العرب في لغتهم شيئا لم يعهدوه من قبل في لغة شعرائهم وخطبائهم كان جديدا في كل شيء قام به بيانه فالألفاظ المعروفة باصواتها تختلف عما عرفوه بمعانيها القرآنية واختلاف معاني الألفاظ يقتضي من القارئ أن يتعرف عليها حتى يفهم المراد من الجمل والعبارات وحتى يستوعب المفهوم الكامل للنص المقروء .


ولابد أن جزءاً كبيرا من إعجاز القرآن كان مرتبطا في ذوق العربي بجدة المعاني التي استعملت فيها الألفاظ ، فليس في طاقة أحد أن يجعل لغته كلها جديدة في استعمالها للألفاظ والأدوات بما لم يسبق به وها نحن أولاء ننظر إلى كتابنا المجيدين فنقيس براعتهم اللغوية بقدرتهم على صوغ تعبير جديد أو إدخال لفظة كانت مهجورة فصارت بهم مأنوسة أما بقية الحديث فمن لغة الناس يعرفونه كما يعرفون أبناءهم يألفونه إلف العادة .


ولنأخذ من القرآن آياته الأولى التي بهر بها العرب :{ اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } .


فهذه آيات خمس تضمنت من الألفاظ مجموعة لا تزيد على عشرة ، ولسنا نستطيع القول بأن عرب الجاهلية كانوا يجهلون هذه الألفاظ ، ولكن نملك الجزم بأن كل لفظ منها كان يحمل معنى لا يعرفه جاهلي وهذه هي المباينة بين ما ألفوه من قدرتهم على البيان ن وبين ما تميز به بيان القرآن من اقتدار .


لقد قيل دائما ( إن المعاني ملقاة في الطريق يتناولها من شاء ، و إنما يتفاضل البلغاء في الألفاظ ) ، ولكن القرآن عكس هذه القضية تماما ، حين جاء بألفاظ يستعملها كل الناس في معان لا يعرفها أحد من الناس .


كان العرب يعرفون كلمة( اقرأ ) ومعنى القراءة ولكن المراد بهذه اللفظة في الآيات لا علاقة له بمعرفتهم هذه فالأمر ( اقرأ ) أمر إلهي وهو موجه إلى من لا يعرف القراءة ولا الكتابة بالمفهوم اللغوي وقد وضع الوحي بين يديه مادة القراءة فإذا هي معان لا تمت إلى مذخور العقل العربي بصلة ما ، وذلك متمثل في الربط البديع بين القراءة واسم الرب الخالق ، وقد كان للعرب الجاهليين فكرة عن الإله مشوشة مغلوطة تختلط بفكرة الوثنية المشركة فلا ريب أن مسافة هائلة كانت تفصل بين فكرتهم هذه وبين ما دعي إليه محمد – صلى الله عليه وسلم – في هذه اللحظة الإلهية من القراءة باسم الرب الخالق ، شيء غريب على العقلية العربية الجاهلية ، وهو شديد الغرابة إذ استمرت الآيات { خلق الإنسان من علق } – الألفاظ سهلة مأنوسة ، ولكن المعنى جديد تماما ، بل إن المعنى بقي جديدا حتى الآن ، يحاول العلم أن يصل إلى أسرار هذه العلقة ، فيتكشف له كل يوم جديد دون أن يتصور أنه واصل إلى غاية هذا المعنى القرآني ، عن أصل الإنسان ، اللغز الأبدي .


وحين تمضي الآيات في وصف الرب بـ (الأكرم ) فلا بد أن ندرك من هذا الوصف لا محدودية الكرم الإلهي ، الذي لم يتصل العربي آنذاك في معتقده بطرف منه ، لقد كان يرى أن الخير كله في أوثانه التي يعكف عليها ، ولم يكن يتصور هذه ( الأكرمية ) للرب الخالق و لا مناص من أن نعترف نحن الآن ، وبعد أن عاشت العقيدة بيننا أربعة عشر قرنا ، أننا عاجزون عن إدراك كنهها ، إذ هي معبرة عن صفة للرب تمتد إلى وجود لا يحده زمان ولا مكان ، و قد جاءت بصيغة تفضيل يعبر عن المطلق ، لا عن النسبي : ( ربك الأكرم ).


ثم ، كيف تم هذا التعليم بالعلم ؟ وما مادته، وما حقيقة القلم ؟ وما مداه ؟


أسئلة و أسئلة تحير العقول ، فتذهب في إجاباتها مذاهب شتى ، دون أن تنتهي إلى رأي قاطع ، فالمعنى القرآني لا نهائي ، والفهم البشري محدود ، ولكنه مستمر بتتابع الأجيال .


هذا هو الإعجاز القرآني الذي منح اللفظ العربي امتدادا في المدلول فاحدث ثورة لغوية لم تشهدها لغة من لغات البشر ، وقد وقع التطور في اللغة العربية في صورة انتقالات على خيط المعنى من استعمال الجاهلية إلى استعمال القرآن وربما كان تصور هذا الخيط في شكل مخروطي أدق في الدلالة على ما نريد من رسم المسافة بين الاستعمال الأصلي والقرآني وتصوير شكله أيضا .


معنى ذلك أن القرآن حين وسع دائرة الدلالة اللفظية – قد منح ألفاظ اللغة مرونة هائلة ، وصلاحية باهرة للتعبير عن مختلف المعاني الطارئة في حياة الناس,


لقد فك الألفاظ من إسارها ، وأطلقها من عقالها ، وقال لها : انطلقي في هذه الدنيا فعبري عن كل ما تصادفين من واقع أو إبداع حضاري ، وبذلك اتسعت العربية لكل مستحدث في العلم ، أو مستنبط في الفكر ، مما نجده في كتابات الفلاسفة والمفكرين والعلماء والمترجمين ، إبان ازدهار الحضارة الإسلامية .



..........................................................


العربية لغة العلوم والتقنيّة


د/ عبد الصبور شاهين
 

أسيرالشوق

المراقب العام
إنضم
18 أكتوبر 2007
المشاركات
55,084
مستوى التفاعل
48
النقاط
48
بارك الله فيك
شكراً لك على الطرح الرائع
 
أعلى