شاعر وقصيدة

إنضم
1 فبراير 2010
المشاركات
300
مستوى التفاعل
6
النقاط
18
شاعرنا هو عمر أبو ريشة عاشق المجد وقصيدته " أنا في مكة " يبدأ المقطع الأول وتبدأ به القصيدة بمناجاة مكة المكرمة التي يجد الشاعر نفسه في رحابها مبتهلا تائبا سعيدا بنفحات الإيمان:

لم تزالي على ممر الليالي ///موئل الحق يا عروس الرمال
أنا في خدرك الوضئ التفا///تات ذهول وهينمات ابتهال
طالعتني فيه الحياة بأسنى /// ما تجر الحياة من أذيال
فتلمست في خشوع مكاني/// ثم شيعت في هداه ضلالي

ثم تتوالى تسعة مقاطع كل مقطع يبدأ بهذه الكلمات الثلاث " أنا في مكة " لتكون كأنها اللازمة الثابتة المتكررة على الأذن بالسماع وعلى العين بالنظر، والمنطلق الذي تبحرمنه عدسة الشاعر عبر القرون ليقدم لنا المشهد الذي يريد .والمشهد الذي يقدمه لنا المقطع الثاني هو نشأة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يتيما في ظروف صعبة :
أنا في مكة وتمضي رؤاي ال/// قهقري في مواكب الأجيال
ما أرى إنه لربع بن عبدالله/// ربع الإعسار والإقلال
عاد يأوي إليه ما أوجعها/// عودة اليتيم الغالي
ثم يمضي المشهد فنرى آمنة بنت وهب ، وأبا طالب بن عبد المطللب وينتهي مع بحيرا وهو ينشر البشرى بنبوة اليتيم الكريم .

المقطع الثالث يقدم لنا حكاية الحجر الأسود والفتنة التي كادت تنشب بين زعماء قريش لولا إن أطفأها محمد صلى الله عليه وسلم بحكمته:
أنا في مكة وأسمع في الكعبة /// ضوضاء سادة أقيال
إنهم غاضبون والحجر الأسود /// ما بينهم قريب المنال
وحين تحل المشكلة ينظر الجميع إلى محمد صلى الله عليه وسلم بالإكبار والإعجاب :
وحنوا للأمين زين الميامين /// رؤوس الإكبار والإجلال
المقطع الرابع يصور لنا غار حراء ونزول الوحي الأمين وبدء النبوة المطهرة :
أنا في مكة وغار حراء /// كوكب في جبينها متلالي
همسة في سماع أحمد قرت/// هو ذاك الأمي ذاك المثالي
فإذا مشعل النبوة ما بين /// يديه ينير دهم الليالي

في المقطع الخامس نلقى أنفسنا في دار أبي سفيان وملأ قريش يأتمرون بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، يريدون منعه من الهجرة وقتله:
أنا في مكة ودار أبي سفيان /// حبلى بالطغمة الجهال

لكنهم يخيبون وتكون الهجرة ويطل على يثرب فجر السعادة إذ تكون دار الإسلام الأولى:
وأفاقت على صباح جديد /// ملء آفاقه أذان بلال

وفي المقطع السادس ترجع عدسة الشاعر إلى الوراء ، ترجع خطوة إلى ما قبل الهجرة حيث الصراع على أشده بين الإسلام والوثنية ، وهو صراع يشفق فيه أبو طالب على نفسه وعشيرته من أذى قريش فيسر للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك فتكون إجابته الربانية العظيمة " والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ":
أنا في مكة وأحمد يبدو/// مثقل الخطو بالهموم الثقال
وأبو طالب إلى جنبه يسعى/// وفيه ما فيه من بلبال
قال أين أنتهيت يا ابن أخي /// الأغلى فخوفي عليك فوق احتمالي
قال ياعم لست أطمع في صولة /// ملك ولا غواية مال
لو أقاموا شمس الضحى في يميني /// وأصاروا بدر الدجى في شمالي
لن يروني أطوي رسالة ربي /// فامض يا عم وارو فحوى مقالي

في المقطع السابع نجد أنفسنا يوم الفتح ، فتح مكة المكرمة وقريش غاضبة إذ ترى أصنامها محطمة :

أنا في مكة وحقد قريش /// في اصطخاب وشملهم في انحلال
تلك أربابهم مبعثرة الأشلاء /// منثورة على الإطلال
وحماة الإسلام في الكعبة السمحة /// شم الأنوف بيض الفعال

والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعالج الغضب بالتسامح ويأسو الجراح بالحب :

أحمد يكره الجراح وإن سالت /// بأدران كل داء عضال
جبلة الحب قلبه كل نبض /// فيه تسبيح مكرمات غوال

أما المقطع الثامن فيصور لنا حجة الوداع ، وحزن المؤمنين وهم يحسون من خطبة نبيهم الكريم أنه الوداع وأن الموت غاية كل حي وأن البقاء للرسالة فقط :

أنا في مكة ورايات دين الله /// ملء الربى وملء الجبال
والمصلون مطرقون على رهبة /// هجس مفجع الإعوال
كلمات الوداع فجرها أحمد /// بين أجفانهم دموع ابتهال
قاربت شمس عمره شفق العمر /// ومالت وذيلها في اشتعال
كل حي إلى الزوال وتبقى /// آية الله فوق طوق الزوال

المقطع التاسع ينقل لنا مشاهد الفتوحات التي خرجت تنشر النور بين الناس:

أنا في مكة وتلك سرايا /// الفتح فيها في زهوة واختيال
عقدت بالشموس هدب أمانيها /// وسارت على رقاب الليالي
ومنار القرآن يهدي خطاها /// في الدياجي لصالح الأعمال

في المقطع العاشر يضعنا الشاعر أمام صورة مناقضة لما جاء في المشهد التاسع حيث نجد الضعف يغشى الأمة ، فتتقطع الأوصال ، ويشيع الضلال ، ويرضى الناس بالذل ، وتعلو لليهود راية :

أنا في مكة وتنفض رؤياي /// وأصحو على عجيب المآل
وأرى ملكها المديد على الأرض /// بديدا مقطع الأوصال
بعضه هاجع على بدع الكفر /// وبعض بالضيم غير مبال
أين إسلامهم ونجمة إسرائيل /// فيه تدوس خد الهلال

في المقطع الحادي عشر يعود الشاعر لمناجاة مكة المكرمة التي سعد بها :

يا عروس الرمال طاب على نجواك /// عمري وكل ما بي صفا لي
جئتك اليوم نافضا عن إهابي /// ما ترامى عليه من أوحال
فأراني أهلا لحبك لا طرفي /// مغض ولا فؤادك سالي

ثم ينتقل من السعادة الخاصة إلى السعادة العامة فيصور لها فرح الأمة بانتصارها على اليهود في تشرين من عام 1973م انتصارا محا عنها حزن هزيمتها في حزيران من عام 1967م :

فض تشرين ما أقام حزيران /// على دربنا من العذال
أنا يا مكتي رجعت إلى مغناك /// حرا وبالجبين العالي
غضبة الكبرياء والعزة الشماء/// كانت كريمة الأهوال
قد شفت مارد العروبة مما /// حز فيه من القيود الثقال

ويعود الشاعر في المقطع الثاني عشر ليمجد المارد الذي خرج من رحم الأمة ، يجلو عنها عارها وشنارها ، ويستعذب الموت من أجل غايته:

عاد من غيهب النوى ذلك المارد /// والمجد طيع وموال
علمته آلامه حرفة الموت /// وفن الإيلام والإذلال
حمل الحقد مارجا في المهاوي/// وجلا الثأر نيزكا في الأعالي
وروى بالدما ثرى طبريا /// وبنى بالضلوع جسر القنال

أما المقطع الثالث عشر والأخير فيتجه فيه الشاعر إلى الملك فيصل بن عبد العزيز رحمة الله تعالى الذي كان يسمع منه القصيدة حين ألقاها في مهرجان كبير كان هو راعيه ، وهو أطول مقاطع المطولة إذ يتكون من ثلاثة عشر بيتا . والأبيات كلها نداء حار يوجهه الشاعر إلى الملك الذي أحبه والذي مثل في خلده صورة الفارس الذي طالما شغف به ومجده وغناء له وبحث عنه طويلا في عصرنا الحاضر فوجده فيه ، لذلك يحمله مسؤولية قيادة الأمة لإخراجها من نكبتها وصناعة نصر جديد لها يشبه النصر الذي رفع راسها في رمضان 1393هـ -تشرين 1973م والذي كان الملك أبرز صانعيه .
ينادي الشاعر الملك الذي عرف بالحلم والأناة وقلة الكلام وإيثار العمل الصامت :

يا ابن عبد العزيز يالنداء /// في مداه ناديتَ كل الرجال
طال حلم الحليم طال على كيد/// العوادي تمرد الأنذال
عشتَ في صمتك المدل على الحرف/// غريبا عن كل قيل وقال

يناديه ليقول له إنه على موعد مع التاريخ ، موعد نادر يتيم المثال ، لا خيار له فيه ، موعد ينتظر واحدة من المفاجآت التي عُرف بها ، وهو بذلك جدير لأنه أهل للتحدي :

شئت أم لم تشأ فأنت مع التاريخ /// في موعد يتيم المثال
الفجاءات في مجالك في الساح/// وفي راحتيك سر المجال
أنتَ رنحت بالعباءة عطفيه /// وعصبت رأسها بعقال
لم تهادن ولم تزل تتحدى /// كل باغ أو غادر ختال

وينتهي المقطع وتنتهي معه المطولة بهذا البيت الذي يطالب الشاعر فيه الملك بإنقاذ القدس والصلاة فيها والحلم النبيل الذي ملك عليه أقطار نفسه :

سر بنا صوبه وصل بنا في /// القدس واضرب حرامه بالحلال

والحقيقة أن مطولة الشاعر " أنا في مكة " من أجمل شعره الإسلامي ، وقد أضفى عليها تعدد المقاطع والمشاهد جمالا وحيوية دفعت عنها الرتابة والملل ، مثلها مثل الكاميرا التي تنتقل بين المناظر المختلفة لتقدم لك الممتع الشائق ، على أن هذا التنوع لم يفقد المطولة وحدتها واسترسالها ، لقد بدأت بمناجاة مكة المكرمة وتصوير سعادة الشاعر الذي يجدد إيمانه فيها ، ثم توالت لتعرض علينا ظهور النبوة المشرفة وحياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ودعوته وجهاده حتى وفاته ، ثم صورت لنا حركة الفتوح الأولى وأعقبت ذلك بالضعف الذي آلت إليه الأمة ، ثم عادت للحديث عن المناخ الذي كان سائدا يوم ألقاها صاحبها وهو مناخ فيه مرارة موجعة من هزيمة حزيران 1967م ونشوة غامرة من انتصار تشرين 1973م ، ومن بين المرارة والنشوة تنطلق صيحات الأعجاب بالمارد العربي المسلم الذي صنع ما صنع ، ومن بينهما أيضا يركز الشاعر في ختام مطولته على الملك الذي رآه جديرا بأن يكون فارس المرحلة وقائدها ، ويركز بالذات على أمنية الشهيرة وهي أن يصلي في القدس المحرره ، فيكون ختاما مؤديا موفقا .






عاشق المجد
عمر أبو ريشة
شاعرا وإنسانا
تأليف/ د حيدر الغدير
 

جبل عمد

Moderator
إنضم
28 فبراير 2008
المشاركات
1,534
مستوى التفاعل
19
النقاط
38

44.gif

21.gif


 

أسيرالشوق

المراقب العام
إنضم
18 أكتوبر 2007
المشاركات
55,084
مستوى التفاعل
48
النقاط
48
بارك الله فيك
شكراً لك على الطرح الرائع
 
أعلى