الخيال عند الرمزيين

إنضم
1 فبراير 2010
المشاركات
300
مستوى التفاعل
6
النقاط
18
يرى الرمزيون ( المذهب الإيحائي ) إن الصور يجب أن تبدأ من الأشياء المادية ، على أن يتجاوزها الشاعر ، ليعبر عن أثرها العميق في النفس ، في البعيد من المناطق اللاشعورية ، وهي المناطق الغائمة الغائرة في النفس ، ولا ترقى اللغة إلى التعبير عنها إلا عن طريق الإيحاء بالرمز المنوط بالحدس ، وفي هذه المناطق لا نعتد بالعالم الخارجي إلا بمقدار ما نتمثله ونتخذه منافذ للخلجات النفسية الدقيقة المستعصية على التعبير . فالصور الرمزية ذاتية لا موضوعية وهي تجربة تنتقل من المحسوس إلى عالم العقل والوعي الباطني ، ثم هي مثالية نسبية لأنها تتعلق بعواطق وخواطر دقيقة عميقة تقصر اللغة عن جلائها
ويرى الرمزيون أنه - كي تتوافر الصفات الإيحائية للصور - على الشاعر أن يلجأ إلى وسائل تعنى بها اللغة الوجدانية ، كي تقوى على التعبير عما يستعصي عنه .
ومن هذه الوسائل " تراسل الحواس" أي وصف مدركات كل حاسة من الحواس بصفات مدركات الحاسة الأخرى ، فتعطى المسموعات ألوانا ، وتصير المشمومات أنغاما ، وتصبح المرئيات عاطرة .. وذلك أن اللغة - في أصلها - رموز أصطلح عليها لتثير في النفس معاني وعواطف خاصة . والألوان والأصوات والعطور تنبعث من مجال وجداني واحد . فنقل صفات بعضها إلى بعض يساعد على نقل الأثر الفسي كما هو أوقريب مما هو ، بذا تكمل أداة التعبير بنفوذها إلى نقل الأحاسيس الدقيقة . وفي هذا النقل يتجرد العالم الخارجي من بعض خواصه المعهودة ، ليصير فكرة أوشعورا ، وذلك إن العالم الحسي صورة ناقصة لعالم النفس الأغنى والأكمل .
وممن دعا إلى الاستعانة بتراسل الحواس ، لكمال التعبير بالصور ، الشاعر الفرنسي "بودلير" في قصيدته التي عنوانها : " تراسل " وفيها يقول :" الطبيعة معبد ذو دعائم حية ، وأحيانا تنطق هذه العمد ولكنها لا تفصح ، ويجوس المرء منها في غايات من رموز تلحظة بنظرات أليفة . وتتجاوب الروائح والألوان والأصوات ، كأنها رحيبة كالليل أو كالضوء " . وتحول صفات الحواس وصورها بعضها إلى بعض يجعل العالم الواقعي مثاليا صوريا مختلطا تتجاوز في الحقائق مع الخيالات والأحلام
ويتبع الوسيلة السابقة وسيلة رمزية أخرى : هي إضفاء شئ من الغموض والإبهام على الصورة الشعرية بحيث تتحدد بعض معالمها ، لتبقى فيها معالم أخرى ظليلة موحية . فلا ينبغي تسمية الشئ في وضوح ، لأن في التسمية قضاء على معظم ما فيه من متعة ، ثم لأن الألفاظ اللغوية قاصرة عن التعبير عما في الشئ من دقائق يوحي بها هذا الغموض .
على أنه يجب أن يكون غموضا يشف عن دلالته بالتأمل ، لئلا تصير الصورة لغزا من الألغاز . وهذا ما عبر عنه الشاعر " فرلين " في قوله :" أحب شئ إليّ هو الأغنية السكرى ، حيث يجتمع المحدد الواضح بالمبهم اللا محدد " ثم إن الأهمية الأولى للظلال لا للألوان " كما تتراءى للعيون الساحرة من خلف النقاب ".
والرمزيون يكرهون في الصورة اللهجة البيانية الخطابية ، بوسائلها التقليدية من سخرية أو تهويل ، لأنهم إنما يريدون التعمق في تصوير المعاني العصية المتوارية في خفايا النفس .
ثم هم يُحتمون لذلك ضرور الإيقاع ، وهو أقوى طرق الإيحاء ، هذا إلى أن الرمزيين يعنون بصياغة الصور المهمومة المشوبة بالغموض ، ويتأنقون في اختيار الألفاظ المشعة المصورة ، بحيث توحي اللفظة في موقعها وقرائنها بأجواء نفسية رحيبة تعبر عما يقصر التعبير عنه ، وتفيد ما لاتفيد في أصلها الوضعي النفعي ، فتصبح كلمة " الغروب" - مثلا - مبعثا لصور وجدانية مصحوبة بانفعالات داخلية ، كمصرع " الشمس الدامي " و " الألوان الغاربة الهاربة " والشعور بالزوال والانقباض وانطماس معالم الحياة ، وإثارة الشكوك وما إليها .
وفي هذا كله لا يصير الشعر شعرا بعناصره الفكرية واللغوية التي هي عناصر غير صالحة أو ثانوية فيما يرون ، وإنما يكون شعرا بعناصره الخالصة ودلالته الإيحائية المستترة المهمة التي تشف عن أجواء نفسية غريبة لا سبيل إلى التعبير عنها باللغة وحدها
ونضرب مثلا للصور الرمزية ببعض أبيات في قصيدة من قصائد " رامبو" وعنوانها " السفينة السكرى " يقول فيها يعني نفسه على لسان السفينة: " حين هبطت من الأنهار الرتيبة الهادئة لم أعد أشعر بالبحارة يجرونني .. في الهدير الجياش للأمواج - بين مد وجزر- جريت .. قد باركتْ العاصفة يقظاتي البحرية . وأخف من السداد ، رقصت على الأمواج التي يسمونها الطاوية الأبدية للضحايا ، عشر ليال دون أن آسف على عيون الفوانيس الكبيرة الحمقاء .. ومن ذلك الحين استحممت في قصيدة البحر منقوعة في ذوب من نجوم لبنية ، أمخر مجرى سماويا أخضر حيث يطفو شئ شاحب في نشوة غائب في تأمله ، هو غريق أحيانا يهبط . وفجأة يختصب أولوان الزرقة بضروب من الانتشاء ، وبإيقاعات بطيئة تحت بريق النهار القاني ، هي أقوي أثرا من الخمر ، وأرحب من ألحان القيثارة ، حيث تختمر مذاقات الحب المرأة الصهباء .. ولكني حقا طالما بكيت ، فالأسحارعصيبة أليمة ، وكل قمر شرس ، وكل شمس مرة المذاق .. آه فلتنفجر مني القاعدة !!. آه !!فلأذهب إلى غور البحر.."
فالسفينة السكرى هي الشاعر نفسه ، وهي سكرى بالحرية ، بالمجهول على أثر توديع الواقع البغيض ، فقد ضاق " رامبو" - على حداثته - بالتجارب الإنسانية الواقعية والاجتماعية ، فهو يترك الناس إلى بحار مغامراته في المجهول ، غير آس على عيون فوانيس المواني في حياة الناس ، ويرحل يخوض ملحمة المصير في مناطق لم يخضها أحد ، ويراها بخياله كأنما عبرها ، ويصور باطن وجوده المظلم المعذب ، وأمواج أحلامه ، ورغباته المختلطة ، ورؤاه الغريبة ، ونشواته المروعة ، فالسفينة الضاربة في البحر ليست سوى نفسه أطلق لها العنان ، والقصيدة أغنية خلوته السامية ، وهي خلوة الإنسان الطموح ، يهرب فيها إلى مناطق التفكير العليا التي لا يفصح عنهاشئ ، فلا نستطيع أن نحدد كل التحديد ما يريده ، ولا نفهمه كل الفهم ، لكنه يثير شعورا غامضا رهيبا يجعله هو موضع إعجابنا في رحلته النفسية الخطيرة .
وفي الحق لم يخترع الرمزيون وسائل الإيحاء كلها في الآداب الأوربية ، فقد كان كثير منها متفرقا منثورا في آداب من قبلهم ، كما يعترفون هم بذلك ، ولكنهم جمعوا هذه الوسائل وزادوا فيها وفلسفوها على حسب آرائهم في الصورة وفي موضوع الشعر
وقد أثروا أبلغ الأثر في الآداب الأوربية والعالمية بهذه الوسائل الإيحائية ، وقد تأثر الشعر العربي الحديث تأثرا عميقا بمختلف اتجاهاتهم وتعبر قصيد " الشراع " للأستاذ خليل شيبوب مثلا للقصيدة الرمزية في الشعر العربي الحديث حيث يقول :
ألا يا شراعا في الظلام يسير
كهمك همي ، والحياة مسير
ذهبت ، وما أدري ، كزورقك الذي
أخذت به مستعجلا كلا مأخذ
أمامي آفاق الحياة بعيدة
بلينا جميعا ، وهي غر جديدة
أنبقى سائرين إلى الغيوب ؟؟
ونبقى كاظمين على اللغوب ؟؟
ولكن نجما في السماء ينير
عليه تسير
فكيف إليه تصير ؟
كنجمي هذا النجم يشرق زاهرا
هي غاية أرمي إليها سائرا
حائرا
في دجى الليالي
ولا أبالي
بما قد صنع على التوالي
وقد أسودت الدنيا ، ولا نور أهتدي به // وتولاني أسى ونزاع
حياة الورى كالبحر لا منتهى له // وحبي على بحر الحياة شراع

هذه القصيدة من الشعر المطلق ، تتمثل فيها الحركة المهمومة التي تبدأ من معطيات الحواس لتردها معالم تجريدية نفسية ، ويتمثل فيها كذلك تجاوب الحواس وتراسلها بإضفاء الألوان على المشمومات والمسموعات، ثم فيها تشخيص التجريدات وتضافرها على تصوير الشعور العام بالأسى العميق مع استطابة هذا الأسى في ظلام الأحلام المحتضرة ، كأنما يضوع شذاها وهي تحترق



النقد الأدبي الحديث
د. محمد غنيمي هلال
 

بن جبار

Member
إنضم
9 يوليو 2009
المشاركات
672
مستوى التفاعل
9
النقاط
18
مشكوووور والله يعطيك العافيه وما قصرت
 

جبل عمد

Moderator
إنضم
28 فبراير 2008
المشاركات
1,534
مستوى التفاعل
19
النقاط
38
اسمح لي ابدي اعجابي بقلمك وتميزك واسلوبك الراقي وتالقك
 

أسيرالشوق

المراقب العام
إنضم
18 أكتوبر 2007
المشاركات
55,084
مستوى التفاعل
48
النقاط
48
بارك الله فيك
شكراً لك على الطرح الرائع
 
أعلى