الأسلوب الأدبي:
الجمال أبرز صفاته وأظهر مميزاته ومنشأ جماله ما فيه من خيال رائع وتصوير دقيق وتلمس لوجوه الشبه البعيدة بين الأشياء وإلباس المعنوي ثوب المحسوس و إظهار المحسوس في صورة المعنوي
فالمتنبي لا يرى الحمى الراجعة كما يراها الأطباء أثرا لجراثيم تدخل الجسم فترفع درجة حرارته وتسبب له رعدة وقشعريرة حتى إذا فرغت نوبتها تصبب الجسم عرقا ولكنه يصورها كما تراها في الأبيات التالية :
وزائرتي كأن بها حياء=فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا=فعافتها وباتت ف عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها=فتوسعه بأنواع السقام
كأن الصبح يطردها فتجري=مدامعها باربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق=مراقبة المشوق المستهام
ويصدق وعدها والصدق شر=إذا ألقاك في الكرب العظام
أبنت الدهر عندي كل بنت=فكيف وصلت أنت من الزحام
والغيوم لا يراها ابن الخياط كما يراها العامل بخارا متراكما يحول إلى ماء إذا صادف في الجو طبقة باردة ولكنه يراها :
كأن الغيوم جيوش تسوم=من العدل في كل أرض صلاحا
إذا قاتل المحل فيها الغمام=بصوب الرهام أجاد الكفاحا
يقرطس بالطل فيه السهام=ويشرع بالوبل فيه الرماحا
وسلّ عليه سيوف البروق=فأثخن بالضرب فيه الجراحا
ترى ألسن النور تثني عليه=فتعجب منهن خرسا فصاحا
وقد يتظاهر الأديب بإنكار أسباب حقائق العلم ويتلمس لها من خياله أسبابا تثبت دعواه الأدبية وتقوي الغرض الذي ينشده فكلف البدر الذي يظهر في وجهه ليس ناشئا عما فيه من جبال و قيعان جافة كما يقول العلماء لأن المعري يرى لذلك سبباً آخر فيقول في الرثاء :
وما كلفة البدر المنير قديمه=ولكنها في وجهه أثر العلم
و لا بد في هذا الأسلوب من الوضوح والقوة فيقول المتنبي :
قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي=بثانية والمتلف الشيء غارمه
غير بليغ ، لأنه يريد أنه نظر إليها نظرة أتلفت مهجته فيقول لها قفي لأنظرك نظرة أخرى ترد إلي مهجتي و تحييها فإن فعلت كانت النظرة الثانية غرما لما أتلفته النظرة الأولى .
فانظر كيف عانينا طويلا في شرح هذا الكلام الموجز الذي سبب ما فيه من حذف وسؤ تأليف شدة خفائه وبعده عن الأذهان مع أن معناه جميل بديع وفكرته مؤيدة بالدليل .
وإذا اردت أن تعرف كيف تظهر القوة في هذا الأسلوب فاقرأ قول المتنبي في الرثاء :
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى=رضوى على أيدي الرجال يسير
ثم اقرأ قول ابن المعتز :
قد ذهب الناس ومات الكمال=وصاح صرف الدهر أي الرجال
هذا أبو العباس في نعشه=قوموا انظروا كيف تسير الرجال
تجد أن الأسلوب الأول هادئ مطمئن وأن الثاني شديد المرة عظيم القوة وربما كانت نهاية قوته في قوله "وصاح صرف الدهر أين الرجال "ثم قوله : " قوموا انظروا كيف تسير الجبال "
وجملة القول أن هذا الأسلوب يجب أن يكون جميلا رائعا بديع الخيال ثم واضحا قويا ويظن الناشئون في صناعة الأدب أنه كلما كثر المجاز وكثرت التشبيهات والأخيلة في هذا الأسلوب زاد حسنه وهذا خطأ بين فإنه لا يذهب بجمال هذا الأسلوب أكثر من التكلف ولا يفسده شرٌ من تعمد الصناعة ونعتقد أنه لا يعجبك قول الشاعر :
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت=وردا وعضت على العناب بالبرد
هذا ومن السهل عليك أن تعرف أن الشعر والنثر الفني هما موطنا هذا الأسلوب ، وفيهما يبلغ قُنَّة الفن والجمال .ً
الجمال أبرز صفاته وأظهر مميزاته ومنشأ جماله ما فيه من خيال رائع وتصوير دقيق وتلمس لوجوه الشبه البعيدة بين الأشياء وإلباس المعنوي ثوب المحسوس و إظهار المحسوس في صورة المعنوي
فالمتنبي لا يرى الحمى الراجعة كما يراها الأطباء أثرا لجراثيم تدخل الجسم فترفع درجة حرارته وتسبب له رعدة وقشعريرة حتى إذا فرغت نوبتها تصبب الجسم عرقا ولكنه يصورها كما تراها في الأبيات التالية :
وزائرتي كأن بها حياء=فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا=فعافتها وباتت ف عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها=فتوسعه بأنواع السقام
كأن الصبح يطردها فتجري=مدامعها باربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق=مراقبة المشوق المستهام
ويصدق وعدها والصدق شر=إذا ألقاك في الكرب العظام
أبنت الدهر عندي كل بنت=فكيف وصلت أنت من الزحام
والغيوم لا يراها ابن الخياط كما يراها العامل بخارا متراكما يحول إلى ماء إذا صادف في الجو طبقة باردة ولكنه يراها :
كأن الغيوم جيوش تسوم=من العدل في كل أرض صلاحا
إذا قاتل المحل فيها الغمام=بصوب الرهام أجاد الكفاحا
يقرطس بالطل فيه السهام=ويشرع بالوبل فيه الرماحا
وسلّ عليه سيوف البروق=فأثخن بالضرب فيه الجراحا
ترى ألسن النور تثني عليه=فتعجب منهن خرسا فصاحا
وقد يتظاهر الأديب بإنكار أسباب حقائق العلم ويتلمس لها من خياله أسبابا تثبت دعواه الأدبية وتقوي الغرض الذي ينشده فكلف البدر الذي يظهر في وجهه ليس ناشئا عما فيه من جبال و قيعان جافة كما يقول العلماء لأن المعري يرى لذلك سبباً آخر فيقول في الرثاء :
وما كلفة البدر المنير قديمه=ولكنها في وجهه أثر العلم
و لا بد في هذا الأسلوب من الوضوح والقوة فيقول المتنبي :
قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي=بثانية والمتلف الشيء غارمه
غير بليغ ، لأنه يريد أنه نظر إليها نظرة أتلفت مهجته فيقول لها قفي لأنظرك نظرة أخرى ترد إلي مهجتي و تحييها فإن فعلت كانت النظرة الثانية غرما لما أتلفته النظرة الأولى .
فانظر كيف عانينا طويلا في شرح هذا الكلام الموجز الذي سبب ما فيه من حذف وسؤ تأليف شدة خفائه وبعده عن الأذهان مع أن معناه جميل بديع وفكرته مؤيدة بالدليل .
وإذا اردت أن تعرف كيف تظهر القوة في هذا الأسلوب فاقرأ قول المتنبي في الرثاء :
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى=رضوى على أيدي الرجال يسير
ثم اقرأ قول ابن المعتز :
قد ذهب الناس ومات الكمال=وصاح صرف الدهر أي الرجال
هذا أبو العباس في نعشه=قوموا انظروا كيف تسير الرجال
تجد أن الأسلوب الأول هادئ مطمئن وأن الثاني شديد المرة عظيم القوة وربما كانت نهاية قوته في قوله "وصاح صرف الدهر أين الرجال "ثم قوله : " قوموا انظروا كيف تسير الجبال "
وجملة القول أن هذا الأسلوب يجب أن يكون جميلا رائعا بديع الخيال ثم واضحا قويا ويظن الناشئون في صناعة الأدب أنه كلما كثر المجاز وكثرت التشبيهات والأخيلة في هذا الأسلوب زاد حسنه وهذا خطأ بين فإنه لا يذهب بجمال هذا الأسلوب أكثر من التكلف ولا يفسده شرٌ من تعمد الصناعة ونعتقد أنه لا يعجبك قول الشاعر :
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت=وردا وعضت على العناب بالبرد
هذا ومن السهل عليك أن تعرف أن الشعر والنثر الفني هما موطنا هذا الأسلوب ، وفيهما يبلغ قُنَّة الفن والجمال .ً
......................................................................................
البلاغة الواضحة
علي الجارم و مصطفى أمين
علي الجارم و مصطفى أمين