ولما بلغ ذلك المعتصم انزعج انزعاجاً شديداً وصرخ في قصره بالنفير ثم نهض من فوره وأمر بتعبئة الجيوش واستدعى القاضي والشهود أن مايملكه من الضياع ثلثه صدقة , وثلثه لمواليه , وثلثه لولده
- كلام مثل الخيال في واقعنا المعاصر نحتاج إلى نخوة وغيرة كغيرة المعتصم من قادات الإسلام وأفرادهم ونصر الله آت لامحالة -
وخرج بالجيش إعانة للمسلمين فوجدوا ملك الروم قد فعل مافعل وشمر راجعاً إلى بلاده وتفارط ولم يمكن الاستدراك فيه , فقال للأمراء أي بلاد الروم أمنع ؟ فقالوا : عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام وهي عندهم أشرف من القسطنطينية فعزم على فتحها ..
- قوة وبسالة وتحد لرؤوس الكفر والطواغيت وردعاً لمن بعدهم من الأذناب -
تجهز المعتصم جهازاً لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء وأخذ معه آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والخيل والبغال شيئاً لم يسمع بمثله , وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال وقدم إليها صبيحة يوم الجمعة لست خلون من رمضان فدار حولها دورة ثم نزل قريباً منها وقد تحصن أهلها تحصناً شديداً وملؤا أبراجها بالرجال والسلاح وهي مدينة عظيمة جداً ذات سور منيع وأبراج عالية كبار كثيرة ..
وقسّم المعتصم الأبراج على الأمراء فنزل كل أمير تجاه الموضع الذي أقطعه وعينه له، ونزل المعتصم قبالة مكان هناك قد أرشد إليه، أرشده إليه بعض من كان فيها من المسلمين. وكان قد تنصر عندهم وتزوج منهم، فلما رأى أمير المؤمنين والمسلمين رجع إلى الإسلام وخرج إلى الخليفة فأسلم وأعلمه بمكان في السور كان قد هدمه السيل وبني بناء ضعيفاً بلا أساس.
فنصب المعتصم المجانيق حول عمورية فكان أول موضع انهدم من سورها ذلك الموضع الذي دلهم عليه ذلك الأسير، فبادر أهل البلد فسدوه بالخشب الكبار المتلاصقة فألح عليها المنجنيق فجعلوا فوقها البرادع ليردوا حدة الحجر فلم تغن شيئاً، وانهدم السور من ذلك الجانب وتفسخ.
فكتب نائب البلد إلى ملك الروم يعلمه بذلك، وبعث ذلك مع غلامين من قومهم فلما اجتازوا بالجيش في طريقهما أنكر المسلمين أمرهما فسألوهما: ممن أنتما؟
فقالا: من أصحاب فلان - لأمير سموه من أمراء المسلمين:
فحملا إلى المعتصم فقررهما فإذا معهما كتاب مناطس نائب عمورية إلى ملك الروم يعلمه بما حصل لهم من الحصار، وأنه عازم على الخروج من أبواب البلد بمن معه بغتة على المسلمين ومناجزهم القتال كائناً في ذلك ما كان.
فلما وقف المعتصم على ذلك أمر بالغلامين فخلع عليهما، وأن يعطى كل غلام منهما بدرة، فأسلما من فورهما فأمر الخليفة أن يطاف بهما حول البلد وعليهما الخلع، وأن يوقفا تحت حصن مناطس فينثر عليهما الدراهم والخلع، ومعهما الكتاب الذي كتب به مناطس إلى ملك الروم فجعلت الروم تلعنهما وتسبهما.
ثم أمر المعتصم عند ذلك بتجديد الحرس والاحتياط والاحتفاظ من خروج الروم بغتة، فضاقت الروم ذرعاً بذلك، وألح عليهم المسلمون في الحصار، وقد زاد المعتصم في المجانيق والدبابات وغير ذلك من آلات الحرب.
ولما رأى المعتصم عمق خندقها وارتفاع سورها، أعمل المجانيق في مقاومة السور، وكان قد غنم في الطريق غنماً كثيراً جداً ففرقها في الناس وأمر أن يأكل كل رجل رأساً ويجيء بملء جلده تراباً فيطرحه في الخندق، ففعل الناس ذلك فتساوى الخندق بوجه الأرض من كثرة ما طرح فيه من الأغنام، ثم أمر بالتراب فوضع فوق ذلك حتى صار طريقاً ممهداً، وأمر بالدبابات أن توضع فوقه فلم يحوج الله إلى ذلك.
وبينما الناس في الجسر المردوم إذ هدم المنجنيق ذلك الموضع المعيب، فلما سقط ما بين البرجين سمع الناس هدة عظيمة فظنها من لم يرها أن الروم قد خرجوا على المسلمين بغتة، فبعث المعتصم من نادى في الناس: إنما ذلك سقوط السور.
ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، لكن لم يكن ما هدم يسع الخيل والرجال إذا دخلوا.
وقوي الحصار وقد وكلت الروم بكل برج من أبراج السور أميراً يحفظه، فضعف ذلك الأمير الذي هدمت ناحيته من السور عن مقاومة ما يلقاه من الحصار، فذهب إلى مناطس فسأله نجدة فامتنع أحد من الروم أن ينجده وقالوا: لا نترك ما نحن موكلون في حفظه.
فلما يئس منهم خرج إلى المعتصم ليجتمع به. فلما وصل إليه أمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون.
ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهراً، وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، وقد حشروهم في كنيسة لهم هائلة ففتحوها قسراً وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم.
ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب، وهو مناطس في حصن منيع، فركب المعتصم فرسه وجاء حتى وقف بحذاء الحصن الذي فيه مناطس فناداه المنادي: ويحك يا مناطس! هذا أمير المؤمنين واقف تجاهك.
فقالوا: ليس بمناطس ههنا مرتين.
فغضب المعتصم من ذلك وولى فنادى مناطس: هذا مناطس، هذا مناطس.
فرجع الخليفة ونصب السلالم على الحصن وطلعت الرسل إليه فقالوا له: ويحك! انزل على حكم أمير المؤمنين.
فتمنع ثم نزل متقلداً سيفاً فوضع السيف في عنقه ثم جيء به حتى أوقف بين يدي المعتصم فضربه بالسوط على رأسه ثم أمر به أن يمشي إلى مضرب الخليفة مهاناً إلى الوطاق الذي فيه الخليفة نازل، فأوثق هناك.
وأخذ المسلمون من عمورية أموالاً لا تحد ولا توصف فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب لئلا يتقوى بها الروم على شيء من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعاً إلى ناحية طرسوس في آخر شوال من هذه السنة.
رب وامعتصماه انطلقت ****ملء أفواه الصبايا اليتم
صادفت أسماعنا لكنها ****لم تصادف نخوة المعتصم ..
يتبع ...