الشيخ د/ عايض القرني يقول . والذي نفسي بيده ما تساوي الدنيا فتيلة ولا تعادل في القبر فزع أول ليله .

مشعل بن شويل

مراقب سابق
إنضم
10 أبريل 2010
المشاركات
12,422
مستوى التفاعل
62
النقاط
48
16 رمضان 1433-2012-08-0404:06 AM

تُبنا يا ربّاه فتب علينا



د. عائض القرني

واحرّ قلباه، واكرباه، يا ربّاه، يا ابن آدم تذنب ولست بنادم، الأنبياء يبكون، والصالحون يشكون، تتابع المعاصي، وتستهين بمن أخذ بالنواصي، ويحك كيف تلعب بالنار، وتستهين بالجبار، يغديك ويعشِّيك، ويقعدك ويمشيك، ثم تنهض على عصيان أمره، مع علوِّ قدره، وعظيم قهره، ويلك هذا الملك كسر ظهور الأكاسرة، وقصّر بالموت آمال القياصرة، وأرغم بالجبروت أنوف الجبابرة، الروح الأمينُ وَجِلٌ مسكين، من خوف القويّ المتين، ومحمد يتهجد ويتعبد، وهو الذي دعا كل موحِّد، ومع هذا يتوعد ويهدد من ركن لكل كافر وملحد.

أين عقلك يا مغرور، هل نسيت يوم العبور، وساعة المرور، كل طائر من خوفه يخرُّ صريعًا، وكل كاسر يئن من خشيته وجيعًا، أبو بكر انتفض من خوفه كالعصفور، وصار صدره بالنشيج يفور، وسقط الفاروق من الخشية على الرمال، حتى حُمِل على أكتاف الرجال، وبقي ذو النورين من منظر القبر يبكي يومين، وهذا علي بن أبي طالب دموعه من التذكر سواكب، كان عمر بن عبد العزيز، يرتعد ولصدره أزيز، ويقول: يا قوم، اذكروا صباح ذلك اليوم، ويلك والله لو أن القرآن نزل على صخر لتفجر، ولو هبط على حجر لتكسر، وتقرؤه وأنت لاهٍ ساه، تتفكر في المنصب والجاه، كأن الليالي لا تطويك، والكلام لا يعْنيك، تدفن الآباء والأجداد، وتفقد الأخوة والأولاد، وأنت لازلت في إصرار وعناد، سبحان الله تغترّ بالشباب، وتزيّن الثياب، وتنسى يوم يُهال عليك التراب:
أبداً تصرُّ على الذّنوب ولا تعـي



وتكثِّر العصيان منك وتدَّعي

أبـداً ولا تـبكي كأنـك خالـد



وأراك بين مـودِّعٍ ومشـيِّعِ

لا تغفل ذكره، ولا تنس شكره، ولا تأمن مكره، هو الذي عفر بالطين أنف فرعون اللّعين، وفرّق جنوده أجمعين، مساكن من عصاه قاع قرقر، بعد ما أرسل عليهم الريح الصرصر، إذا غضب دمر المنازل على أهلها، وسوّى جبالها بسهلها، شابَ رأسُك، وما خفّ بأسك، ومازال في المعاصي فأسك، ما لك ما تردّك الآيات، ولا تزجرك العظات، ولا تتذكر الأموات، مصرٌّ مستكبر، تركب كل أمر منكر.


سمع ابن وهب آية (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ)، فسقط مغشياً عليه في الدّار، ثم مات في آخر النّهار، سمع عمر بعض السّور، فطرح دِرَّتهُ وانقعر، فبقي مريضاً شهرًا، وصارت دموعه نهرًا، قرأ سفيان سورة الزلزلة، فسُمع له ولولة، كأنها أصابت مقتلة، بعض الصّقور تسقط من السماء، وإن من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء، وأُغميَ من الخشية على كثير من العلماء.
كأنَّك ما سمعت بطور سينا
تخـرُّ له الجبابـر وهي تـبكي
عـراة نحـن فيـه فيـا لهـولٍ


ويومٍ صـار مـن طـولٍ سنـينا
ويَحْـصِي فـيه ربِّي ما نسينا
كأنا مـا طـعمـنا أو كـسينا


ويحك خَف ربك، وراجع قلبك، واذكر ذنبك، موسى خرّ من الخوف مغشياً عليه مصعوقاً، ويوشع صار قلبه من الوجل مشقوقاً، وبعضهم أصبح وجهه من الدّموع محروقاً، كيف تصبح وتمسي، والرّسل كل يقول نفسي نفسي، أعجبتك الدّور والقصور يا مغرور، ونسيت القبور، ويوم النّشور، يوم يُحصَّل ما في الصّدور.


والذي نفسي بيده ما تساوي الدنيا فتيلة، ولا تعادل في القبر فزع أول ليلة، يوم تطرح فيه وليس لك حيلة، استنفق مالَك، وراجع أعمالك، وزن أقوالك.

وخطَكَ الشيب، وما تركت العيب، تشاهد المصارع، وتسمع القوارع، وتنهال عليك الفواجع، تنسى الربَّ، يا ميّت القلب، الصحابة من الخوف مرضى، وطلحة ينادي: اللهمّ خذ من دمي حتى ترضى، ما شاء الله ما تحضر صلاة الفجر، ولا تطمع في الأجر، وجعفر تقطعت بالسيوف أوصاله، وارتفع بالفرح تهليله وابتهاله.
على شفرات السّيف مزقت مهجتي



لترضى وإن ترضى عليّ كفاني

فلو كتبـتْ منّا الدمـاء رسـالـةً



لخطَّت بحـبِّ الله كـل جـناني

ويلك أنت مهموم بالقرش، والفرش، والكرش، وسعد يهتز لموته العرش.
تهاب الوضوء إذا بُرد الماء، وحنظلة غُسل قتيلاً في السماء، تعصي حي على الفلاح ومصعب بن عمير قَدَّم صدره للرّماح، ما تهتز فيك ذرة، والموت يناديك في كل يوم مئة مرة، والله لو أن في الخشب قلوب لصاحت، ولو أن للحجارة أرواح لناحت، يحن المنبر للرسول الأزهر، والنّبي الأطهر، وأنت ما تحنُّ ولا تئنُّ، ولا يضج بكاؤك ولا يرنُّ.


لو مُتَّ لعذرناك، وفي قبرك زرناك، ولكنك حيُّ تأكل وتشرب، وتلهو وتلعب، وتغني وتطرب.
بعض الصالحين أتى لينام، فترك الفراش وقام، وأخذ ينوح كما تنوح الحمام، قالوا ما لك؟ قال: تذكرت (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) وهذه الآية كافية.
تُواصل الذنب لا تدري بعاقبةٍ



وتسـتهين بأمر الواحد الصّمد

كأنَّ قلبك مطبـوع عليه فـلا



تخشى عقاباً ولا تبكي على أحد

سعيد بن المسيّب، الإمام المحبب، والزاهد المقرب، ذهبت عينه من كثرة الدّموع، واصفر وجهه من الخشوع، وهو ما بين سجود وركوع، يزيد بن هارون، الإمام المأمون، عَميَ من البكاء، فما أَنّ ولا اشتكى، فقالوا له: ما فعلت عيناك الجميلتان، فقال: أحتسبهما عند الواحد الديّان، أذهبهما بكاء الأسحار، وخوف الواحد القهار. والله إنّ فينا علّة، ننام اللّيل كلّه، كأنا لسنا من أهل الملّة.
شغلنا بالـبنين وبالحـطام
كأنا قـد خلقـنا للـنوادي


ولم نسـرع إلى دار السّـلام
وإكثـار الشـراب مع الطعام

الملَك حمل الصّور لينفخ، والملائكة تكتب عليك وتنسخ، وأنت بالذّنوب ملطّخ، ما تبكي لك مقلة، كأنك أبله، كان ابن المبارك من البكاء يخور، كأنه ثور منحور، وابن الفضيل يموت في الصلاة، لأنه سمع من الإمام قرآناً تلاه، ترك ابن أبي ذئب القيام لأمير المؤمنين، وقال ذكرت يوم يقوم الناس لربِّ العالمين، كان ميمون بن مهران كأن عينيه نهران، حَفر له في البيت قبر، إذا رآه فكأنه يُنقر في قلبه نقرًا، يا ويلاه القبر القبر.


يقول أحد السلف: يا مغرور إن كنت تظن أن الله لا يراك، وتفعل هذه الأفعال فأنت شاكّ، فما غرّك وألهاك، وإن كنت تعلم أنه يبصر أفعالك، ويحصي أعمالك، ويراقب أقوالك، ثم تتجرَّأ على محارمه، وتستهين بمعالمه، فقد سُلب قلبُك، وأُخذ لُبّك.
ولو أن قلباً يعرف الله لاستوى



لديه نعيم العيش والحدثانِ

فما هي إلا جيفة طاف حولها




كلابٌ فلا تخدعك باللّمعانِ


ابن تيمية يمرغ وجهه في التراب، وينادي يا وهّاب، يا فاتح الأبواب، الْطف بنا ساعة الحساب، وأنت ميّت الإرادة، ظاهر البلادة، عريض الوسادة. الملائكة يسبِّحون الليل والنهار لا يسأمون، ويذكرون ربّهم ولا يفترون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولم يعملوا سيئات، ولم يقترفوا خطيئات، ولم يرتكبوا موبقات، ونحن أهل العصيان، والتمرد والنكران، ومع هذا ترانا لاعبين، وفي طرق اللّهو ساربين، ولِكأس الغفلة شاربين، الأمر فصل، وجدٌّ ليس بالهزل، يوم قمطرير، شرُّه مستطير، تكاد القلوب منه تطير، تذهل المرضعة عما أرضعت، وتُسقط الحامل ما حملت،وترى كل نفس ما عملت، الخلائِق تضيق نفوسهم، الولدان تشيب رؤوسهم.
هدِّ من لهوك شيئاً هدِّ هَـدِّ
أرغِم النفسَ على فعل التقى


إنّ أمـر الله فينا جِدُّ جِدّا
فاز من في عمره كَدَّ كَدّا



أراد علي بن الحسين أن يلبي على الراحلة، فسقط من الخوف بين القافلة، فلما أفاق، قال للرفاق: أخشى أن أقول لبيك، فيقول: لا لبيك ولا سعديك، مع أنه زين العابدين، وريحانة المتهجدين، لكن القوم عرفوا ربّهم، فبكوا ذنبهم، وجمعوا خوفهم وحبهم، فيا صاحب العين التي لا تدمع، والنفس التي لا تشبع، والقلب الذي لا يخشع، إلى متى تؤجِّل التوبة، أما لك أوبة:
فيا دمع هذي ليلة البين أقبلت



فهات غَروباً تبرد الزفرات

ويا قلب قد عاهدتني فكذبتني



كأنك لا تجزعْ من الغدرات

العمر قصير، والشيب نذير، والدار جنة أو سعير، نراك تضحك كأنّك أتاك أمان، من الملك الدّيان، ما لك لا تحزن، هل عبرت الصراط حتى تأمن الندم على ما فرطت،أحسن يا مسكين: إبراهيم الخليل، وهو النَّبي الجليل، بكى ذنبه، ودعا ربَّه، وقال: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)، فكيف بنا نحن المذنبين، خلقك فسوّاك، وأطعمك وسقاك، وآواك وكساك، ومن كل بلاء حسنٍ أبلاك، ثم تعصيه وهو يراك:
نُسِجت لنا الأكفان من أعمارنا


ونظلُّ نضحك ما لنا تفكيرُ

أوَ ما ذكرت القبر أول ليلـةٍ



يـلقاك فيه منـكر ونكيرُ

أحسن ماء دموع التائبين، أعظم حزن حزن المنيبين، وأهنأ نعاس نعاس المتهجدين، أجمل لباس لباس المحرمين، ما ألذَّ جوع الصائمين، ما أسعد تعب القائمين، ما أكرم بذل المتصدقين، أين المباني والمغاني، أين الغواني والأغاني، أين الأفراح والتهاني، أين من شاد وساد، أين ثمود وعاد، أين ساسان، وقحطان، وعدنان، وفرعون وهامان، أين مُلْك سليمان، أين أصحاب الأكاليل والتيجان،) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ(، والطَّولِ والإنعام.


أما زرت المقابر، أما هالتك تلك المناظر، أما رأيت القوم صرعى، والدود في عيونهم يرعى، عن الحديث سكتوا، وعن السّلام صمتوا، الظالم بجانب المظلوم، والمنتصر بجانب المهزوم، والضعيف مع الأمير، والغني مع الفقير، وانظر إلى المغمور والمشهور، والغالب والمقهور، ذهب الحُسْن والجمال، والجاه والمال،وبقيت الأعمال، أموات يتجاورون، ولا يتزاورون.
 

مشعل بن شويل

مراقب سابق
إنضم
10 أبريل 2010
المشاركات
12,422
مستوى التفاعل
62
النقاط
48
الأخوة الموقرين
بني مالك
أبو يوسف الشوقبي
ابو عبدالعزيز الشوقبي
ألف ترليون شكر لمروركم الكريم .. وتقبلوا تحياتي .,,,​
 
أعلى