قهوة غزايل .....

إنضم
6 يوليو 2007
المشاركات
1,636
مستوى التفاعل
43
النقاط
48
فصل من رواية



(قهوة غزايل)



لمحمد بن حمدان المالكي












1


في قريتي الحالمة الرابضة على صدر الغيم ، يتناغم غناء العصافير مع شذا البعيثران والبردقوش والشار والريحان ، تلك الغرسات التي كستها بَرَكة كفوف والدتي نورة بنت عوض – رحمها الله – الحانية ، عندما غرستها قبل أيام قليلة بأناملٍ تحددت بحمرة الحناء المشرئب بالسواد ، بعد أن طلبت من والدي - رحمه الله - كسر باب الصندوق الحديدي القديم الذي كان يستخدم لحفظ الملابس والحاجيات الصغيرة لاستخدامه حوضاً لزراعة البعيثران والبردقوش ، وما هي إلا أياما حتى فاح شذاها وقد أُثقلت أوراقها الحبلى بقطرات الندى الهارب من صقيع الليل ، وعندما تسللت خيوط الشمس الذهبية هوت على وجه الثرى مقبلة ثغره لترتفع تلك الأوراق كفوفاً داعية مسبحة للخالق الرزاق ..
عندها أخذ جبل ( جمْح ) الذي عانق الغيم بشموخه يتثائب ويدفع بصدره سرايا الضباب الرمادية التي أفاقها من سباتها بعد أن نامت في عبائته الخضراء طوال الليل لتتبدد كأن لم تغن بالأمس ، وأخذت غصون العُثرُب والشذاب والنيِم والسُّعبُق والشث والعرعر تتنفس خيوط الشمس الذهبية وقد داعبتها رياح الصبا فاستجابت أغصانها وأخذت تتراقص متناغمة مع حفيف الريح وتغريد طيور الوجّي والعُصيفرة وأبو غريراء والقمرية والقارورة ... ، بعد أن شق تناغمها نعيق الغراب وصياح الحديّا ونهيق الحمار ، وخوار الثيران ..
وفي المقابل أخذ رنين النجر يفتفت ما تبقى من بقايا النوم في جسدي النحيل المندس في ثنايا اللحاف القطني الثقيل ، وصوت والدتي يرن في أذني : " يا الله قم أنا فداك ، قم عشان نشيل الفراش ، أبوك بيرجع من المسيد عشان نحط له الفطور ويلحق السوق ، قم أنا فداك قم " ..
ياااااااالله ما أعذب ذلك الصوت الدافئ عندما ينساب في مسمعي ليصل إلى قلبي بدون حواجز – افتقدت ذلك الصوت - ، حينها انفض ما تبقى من النوم بتثائبةٍ طويلةٍ وهرشٍ لشعر الرأس المثقل بالنوم وبقايا الرمل المتبقي من مغامرات اليوم السابق ..
وبصوتٍ مليء بالثقة أنادي :
يمّه جيعااااااااان ..
فتقطع جوع صوتي بعسل إجابتها :
" تعال يا حبيبي كل من كبدي .. أنا فدا كبدتك .. " ..
حينها أسد جوع قلبي بخبز حنانها ..
وأملأ رئتي بدفق حبها ..
ويأخذني روتين الإفاقة لأكتشف أنحاء الحجرة الحجرية بعيني الصغيرتين كعادتي كلما أصحو من النوم ، وأمر في مشوار اكتشافي على الزاوية التي تكون فيها والدتي وهي تتجه إلى طبقٍ مصنوع من سعف النخل قد غطي بقطعة قماش بيضاء ثقيلة وتخرج لي قرصاً صغيراً ممسوحاً بالسمن قد صنعته قبل أن أصحو من سباتي ، صنعته على الصاج في الصباح الباكر ، بعد أن أشعلت النار في عيدان الطلح اليابسة ، وأخذت تنفخ في شجر العرفج ليشتعل تحت أعواد الطلح ، فامتلأ المكان بأعمدة الدخان ، وما لبث أن زال باشتعال النار ، ومن ثم أقربت العجين المصنوع من دقيق البر البلدي ، فاقتطعت كرةً منه بحجم قبضة اليد وألقتها على الصاج ، ثم بللت كفها بقليل من الماء وأخذت تفرد في العجين على وجه الصاج الملتهب حتى يتمدد ، فرققت وسطه وسمّكت أطرافه ، عندها فاحت رائحة الخبز الناضج لتملأ الحجرة الحجرية الصغيرة المثقل سقفها بطبقات الدخان المسمى ( الوار ) حتى أصبح أسوداً كالكحل ، وما هي إلا لحظات حتى أمالت الصاج في وضع رأسي لكي تصل النار وجه القرص ، فأصبح لونه كالشفق ، عندها نزعته بالمقرشة وألقته في الطبق السعفي وألقت عليه قطعة القماش الثقيلة ليحفظه ساخناً .
لكنها لم تنس أن طفلها الصغير محمد يعشق الأقراص الصغيرة ؛ لذلك رفعت غطاء إناء العجين واقتطعت قطعة من العجين في حجم نصف قبضة اليد ، ومن ثم ألقتها على الصاج لتصنع لي قرصاً صغيراً يشعرني بالخصوصية ومدى الاهتمام ، ومن ثم مسحت الأقراص بالسمن البلدي المعطر بالريحان والمختلط بالخلاصة ، فأخذت أنهش قرصي الصغير وأشرب من اللبن البقري الذي أعدته والدتي بالأمس ، وعين والدتي ترمقني وتكسوني رموشها ببرد الحنان وهي تقول : " بالعافية .. كل .. كل أنا فداك عشان تصير رجّال " ..
كلمات لا زالت تشدو في أذني موسيقى ..
وتنسل إلى قالبي طمئنينة ..
وتتشجر في جسدي قوة ..
وتملأ عيني ضياء ..
اقتات عليها كلما هب نسم الذكرى العليل المعطر برائحة البردقوش والبعيثران والريحان ..
وأثناء الإفطار تسلل إلى أذني صوت صديقي الحميم محمد عيضة وهو يعطيني الإشارة بوجوده في مساريب ( أزقة القرية تسمى مساريب ، ومفردها مسراب ) القرية ، وذلك بتصفيرة متقطعة يكررها حتى آتي إليه على وجه السرعة ، حينها أصابني القلق فأخذت بقية القرص في يدي وانطلقت أركض ناحية الباب ، ووالدتي تنادي : " أقعد افطر يا ولدي .. كمّل فطورك يا روحي " ..
وأنا أذني معلقة بتصفيرة صديقي محمد عيضة ..
انسللت من الدرج كالسهم ، وإذ به واقف في المسراب ينتظرني ، وضعت يدي على كتفه من خلف عنقه ووضع يده كذلك ، وقد قاسمته القرص الممسوح بالسمن ، وانطلقنا في رحلة الحلم الجميل نحو اللهو غير المنظم ، وفي الطريق التقينا بابن خالي عوض وأصحاب الحلم الجميل : خالد محمد وعلي عيد وأحمد هنيدي وسعد الرويس ، وذلك في موقعنا المفضل ( قهوة غزايل ) ، وهو عبارة عن عتبة باب نجلس عليها يظللها عريش من أخشاب العرعر ، ذلك الباب الذي أغلق على أحداث تاريخية واجتماعية ، لكونه كان يستخدم حبساً للمخالفين إبان بداية الحكم السعودي ، فكم ضجت جدران هذا الحبس بأنين المسجونين ورنين السلاسل ، وكم كانت شاهداً على مسافات بوحهم وتضاريس همومهم ودموع ندمهم ..
إلا أننا كنا نستشرف عناوين تلك الأحداث ونسترقها من أحاديث آبائنا عندما يتحدثون عنها كماض ذهب بخيره وشره ..
ويمر الوقت ونحن في قهوة غزايل نفكر في طريقة نلهو بها في ذلك اليوم ..
وبنما نحن في خضم التفكير على بوابة ذلك الحبس الحجري الذي كساه الزمن حلة الوقار وهيبة الشموخ ورمز القوة صدح في مسمعي نداء والدتي :
يا محمد .. تعال وأنا أمك .. اسرح بالبهم ( صغار الضأن ) ، كانت فرحة غامرة بهذا الأمر ، فالبهم تمثل لي عالماً ممتعاً من اللهو ..
طويت تفكيري وألقيت به على أصحابي ، وعدت إلى المنزل وساقاي تسابق الريح ، وتناولت مطرقاً من أغصان شجر الرمان وأخذت أهش بها على قطيع البهم ، إلا أن حرص والدتي الشديد عليّه وعليها حاصرني بسيل من الوصايا :
انتبه للبهم وأنا أمك ..
لا تجلس تلعب وتترك البهم ..
لا تخليها تدخل في بلاد الناس ..
لا تهجل البهم ( تركض بشدة خلف البهم )..
ارجع للبيت قبل صلاة الظهر ..
لا تقلّب الحصى تحتها عقارب ..
لا تجلس تطرد العصافير وتهمل البهم ..
انتبه وأنا أمك .. انتبه خلك رجال ..
يا الله تحفظ وليدي .. يا الله تخليه ..
تعال اسلّم عليك ..
عندها ختمت جوقة هذه الوصايا بقبلتين قويتين استنشقتني من خلالهما وكأنها تريد أن تدخلني في جوفها ، ومدت لي منديلاً يحتوي على كسرة خبزٍ يقوم مقام البسكويت لآكلها عند جوعي ، وقد مدت معها جرعة من الحنان ..
انطلقت وأمامي قطيع البهم أسوقه بعصا الرمان ، وخلفي والدتي وهي واقفة ترمقني بعينيها الحنونتين ، وقد لفّت رأسها بمسفع عرضين قد غطى معظم جسمها حتى بدى كالشرشف الذي يجللها ، وأخذت جزء منه لتغطي به طرفاً من وجهها وقد رسم خضاب الحناء على كفها لوحة الوفاء والحنان والعطاء ..
ولكنني ما إن غبت عن مدى عينيها حتى مارست هواياتي التي حذرت منها والدتي !!
صغيران نرعى البهم يا ليت أننا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ
.............
 
التعديل الأخير:

أسيرالشوق

المراقب العام
إنضم
18 أكتوبر 2007
المشاركات
55,084
مستوى التفاعل
48
النقاط
48
الله ما أروعك وما أروع طرحك

رواية رائعة ذكرتنا يا دكتور محمد بقهوة غزايل التي كان يجتمع فيها المسافرين للطائف أو العائدون منه لأخذ العلوم

من بعهم بعضا وتناول الشاي أبو أربعة وأحياناً وجبات كاللحم والأرز أو الدجاج والأرز والإيدامات المتنوعة مع البيبسي

والميرندا والتيم التي مكتوب على زجاجاتها - كندا داري .

لا زال صدى صوت القهوجي اليمني الجنسية عندما يصدح بصوته قائلاً :

أربعة سود حلا برا عبي حجر ويقصد براد شاي أبو أربعة والسكر خارجه بحيث يكون في فنجان خارجي وصاحب

الطلب يضع الكمية التي يحتاجها أما الحجر فهو حجر يتم وضعه على رأس الشيشة بعد تعبأته بالجراك .
 

حصن شريان

مراقب المنتديات العامة
إنضم
7 ديسمبر 2008
المشاركات
25,220
مستوى التفاعل
192
النقاط
63
الإقامة
الشمال الشرقي
نسأل الله الرحمه والمغفرة لوالديك وان يجعل ماقدموه لك في موازين حسناتهم
نعم هذه من حكايا زمان التي لايمكن ان ننساها ماحيينا
==================
 

حسين العبدلي

Active Member
إنضم
16 يوليو 2009
المشاركات
1,242
مستوى التفاعل
10
النقاط
38
تصدق يادكتور والله العظيم من اجمل ماقراءة ولكن احسست بحزن شديد ووقفت عند بعض الجمل برهه من الوقت وحبست عبرتي عندها

اشكرك جزيل الشكر على ماقدمته
 
أعلى