فايز بن عيد
مشرف سابق
- إنضم
- 13 نوفمبر 2007
- المشاركات
- 501
- مستوى التفاعل
- 14
- النقاط
- 18
قال نبي ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم " : إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا " (رواه أحمد ٤ / ١٢٧ ، وأبو داود ٤٦٠٧٨ )
وإن من اﻻختلاف الذي ذكر في هذا الحديث ما وقع ويقع من إنكار ما دلت عليه النصوص ، وتتابع على القول به علماء اﻷمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
وتلكم محنة قديمة تتعدد أمثلتها بين حين وآخر ، بَيْد أنها أضحت في هذه اﻷزمنة المتأخرة أكثر انتشارا وأعظم استفحاﻻ .
ومن أشد ما يصيب الحليم بالحيرة أن يقع في هذا أحد من حملة العلم الشرعي ، أما الجاهل فلا عجب أن يخبص في اﻷمور ، وينفي ما هو مقطوع به عند أهل العلم ، فلا يترتب على صنيعه كبير خلل في الغالب ؛ ﻷنه في نهاية المطاف مجرد جاهل ٠
كما أن اﻷمر ﻻ يخفى على الناس إذا دخل في هذه اﻷمور من فُتِنوا بمدنية الغرب ومسايرة ما هم عليه من الحال البغيض في شتى مناحي الحياة ؛ﻷن بطﻼن منهج هذا الصنف واضح للعيان ، ﻻ يحتاج الناس في بيان بطﻼنه إلى كبير ﻋﻧﺎء ، كيف وقد قال قائلهم بأن علينا أن نساير هذه المدنية الغربية في خيرها وشرها ، وحلوها ومرها ، وما يعاب فيها وما يحسن !
إذاً اﻹشكال فيما يقع من حملة العلم الشرعي .
ومن آخر ما كثر الكلام فيه موضوع اﻻختلاط بين الرجال والنساء من غير المحارم ، حيث سوّغه بعضهم ، بل قال : إن ﻛﻠﻣﺔ ( اﻻختلاط ) مُحدثة لم يرد في النصوص ما يدل عليها بالكلية .
وهؤﻻء مسبوقون من أناس كتبوا في هذا الموضوع منذ عقود ، وكان كلامهم في نطاق كلام عام عن المرأة وحجابها وحدود علاقتها بالرجل .
وقد جمعوا نصوصا استدلوا بها على وجهتهم هذه ، غاضين الطرف عن نصوص أخرى جلّت المسألة ووضحتها .
ومن أعجب ما ذكروه أن كلمة ( اﻻختلاط ) تميزت – إضافة إلى كونها محدثة – ﺑﺎﻹﺑهام وعدم الوضوح ، ودلّلوا في هذا السبيل بوقائع جِرِت زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم ، من أشهرها اختلاط الرجال بالنساء بزعمهم حال الطواف ﺑﺎﻟﻛﻌﺑﺔ ، ، وفي المسجد عند أداء الصلاة دون نكير .
وغفل هؤﻻء عن وقوعهم فيما أنكروه على غيرهم ، حيث أوهموا بكلامهم هذا أن مجرد وجود الرجال والنساء في موضع واحد هو اﻻختلاط الذي منعه العلماء ، فأبهموا اﻷمر على الناس ، وأشعروا أن المنع من اﻻختلاط يقصد به منع اجتماع الرجال والنساء في أي موضع كان .
وهذا من تقويل أهل العلم ما لم يقولوا ، فإنهم لم يقولوا هذا ، ولم يكن اﻷمر عندهم بحمد ﷲ ملتبسا ، حتى يتحدث بالنيابة عنهم غيرهم ٠
و قد بين البخاري في صحيحه حقيقة هذا اﻷمر بما ترجم به على أمر ابن هشام والي مكة بعدم طواف النساء مع الرجال ، فقال رحمه ﷲ في صحيحه ( ٢ / ١٦٣ ) " باب طواف النساء مع الرجا ل " ثم ساق بسنده هذه المناقشة التي يتضح منها بجلاء أن طواف الرجال مع النساء ﻻ يعني أبدا اﻻختلاط بينهم .
والمناقشة كانت بين عطاء بن أبي رباح فقيه أهل مكة وبين تلميذه ابن جريج ، حيث قال عطاء منكرا صنيع الوالي : " كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى ﷲ عليه وسلم مع الرجال ! " ﻓﻘال ابن جريج : " كيف يخالطن الرجال ! "فجاء جواب عطاء واضحا ": لم يكن يخالطن "
ففرق – كما ترى – بين طواف الرجال مع النساء في موضع واحد ، وهو المسجد الحرام ، وبين اختلاط الرجال بالنساء .
والمحتجون على جواز اﻻختلاط يجعلون من أول ما يستدلون به على اﻻختلاط ما يكون في المسجد الحرام من طواف النساء مع الرجال ،
ثم إن عطاءً وضح بعد ذلك كيف تطوف النساء مع الرجال ، دون أن يكون من آثار ذلك وقوع اﻻختلاط . فقال ضاربا المثال بالطيبة المطهرة عائشة رضي ﷲ عنها ": كانت عائشة تطوف حَجْرةً من الرجال ﻻ تخالطهم "
ومعنى قوله ( حجرة ) : ناحيةً ، مأخوذ من قولهم : نزل فلان حجرة من الناس : أي معتزﻻ انظر( فتح الباري ٣ / ٦٠٧ )
ليس هذا فحسب ، بل إن امرأة – كما في رواية البخاري المذكورة – قالت لعائشة ": انطلقي نستلم يا أم المؤمنين ، قالت : انطلقي عنك ، وأَبَت " . وإنما أبت رضي ﷲ عنها ؛ﻷن اﻻستلام بالوضع الذي تريده المرأة سيترتب عليه مزاحمة الرجال واﻻختلاط بهم .
وهذا ما أنكرته أم المؤمنين رضي ﷲ عنها على موﻻة لها قالت : يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا ، واستلمت الركن ﻣر تين أو ثلاثا ، فقالت لها : ﻻ أجرك ﷲ ، ﻻ أ جرك ﷲ ، تدافعين ا لرجال ؟ أﻻ كبرت ومررت " رواه ( الشافعي في اﻷم ٢ / ١٧٢ ، والبيهقي من طريقه في السنن الكبرى ٥ / ٨٠ )
فتأمل كيف بررت عائشة إنكارها على موﻻتها بأن صنيعها سيؤدي حتما إلى مزاحمتها للرجال ، وهو عين اﻻختلاط الذي نأت أم المؤمنين بنفسها عنه ، وإن كانت الجاهلة من النساء تستسهله ، بدعوى إقامة السنة باستلام الركن .
وإذا عدنا لرواية البخاري التي بدأنا بها وجدنا اﻻحتياط التام ﻹبعاد النساء عن اﻻختلاط بالرجال ، حيث يقول عطاء ": فكن يخرجن متنكرات بالليل ، فيطفن مع الرجال ."
ومعنى " متنكرات " مبيّن في رواية عبد الرزاق ( 5 /67 )، حيث قال " مستترات "
هذا اﻻحتياط اﻷول .
أما اﻻحتياط الثاني فبينه عطاء بقوله ": ولكنهن كنّ إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن ، وأُخرج الرجال "
والمعنى كما في ( فتح الباري ٣ / ٦٠٧ ) " إذا أردن دخول البيت وقفن ، حتى يدخلن ، حال كون الرجال مخرجين منه "
وهل كل هذا إﻻ من باب تجنب اختلاطهن بالرجال؟
ولهذا فإن النبي صلى ﷲ عليه وسلم لما وقع اختلاط محرم للنساء بالرجال مرة بادر عليه الصلاة والسلام بإنكاره ، فروى ( أبو داود ٥٢٧٢ ) عن أبي أسيد اﻷنصاري رضي ﷲ عنه أنه سمع رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد ، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق ، فقال رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم للنساء ": استأخِرْن ، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق ، عليكن بحافات الطريق ، فكانت المرأة تلتصق بالجدار ، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به "
ومعنى (ليس لكن أن تحققن الطريق ) أ ي وسطها ، كما في ( النهاية ﻻبن اﻷثير ١ / ٤١٥) 0
وقد ترجم أبو داود على الحديث ترجمة قريبة من ترجمة البخاري على طواف الرجال مع النساء ، فقال أبو داود : " باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق " 0
ففهم رحمه ﷲ أن المشي في الطريق ﺷﻲء ، واﻻختلاط الذي أنكره النبي صلى ﷲ عليه وسلم شيء آخر .
وذلك أن الطرق ﻻيمكن أن يُمنع الناس من المرور فيها ، فيمر الرجال وتمر النساء ، ولكن ﻻ يحل أن يكون ذلك على حال من اختلاطهم .
ومن هنا ترجم أبو داود في السنن على صلاة النساء مع الرجال في المسجد ترجمة تبين حقيقة ما كان عليه الناس زمن النبوة من التباعد من اﻻختلاط فقال " : باب اعتزال النساء في المساجد عن الرجال " ثم ساق بسنده عن ابن عمر رضي ﷲ عنهما أن النبي صلى ﷲ عليه وسلم قال " : لو تركنا هذا الباب للنساء " فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات .
قال صاحب (عون المعبود ٢ / ١٣٠) " : لو تركنا هذا الباب " أي باب المسجد الذي أشار إليه النبي صلى ﷲ عليه وسلم لكان خيرا وأحسن ؛ لئلا تختلط النساء بالرجال في الدخول والخروج من المسجد ، والحديث فيه دليل أن النساء ﻻ يختلطن في المساجد مع الرجال ، بل يعتزلن في جانب المسجد "...
وقد جاء اﻻحتياط من اﻻختلاط المحرم حتى في اﻷحوال الصعبة ، فهذا رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم لما حضرت الوفاة صاحبه الجليل أبا سلمة حضره النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبين النساء ستر مستور ، كما رواه ( ابن سعد في الطبقات ٣ / ٢٤١ ) .
فهذا الستر المستور بين الرجال والنساء ليس له معنى إﻻ منع اﻻختلاط ، مع أن الموضع فيه رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم – أزكى الناس وأطهرهم وأبعدهم عن أي ريبة - .
كما أن القوم –رجاﻻ ونساء – ينتابهم الحزن بوفاة هذا الصحابي الكريم ، وذلك كله مما يجعل فتنة الرجال بالنساء – والحال ما ذكر - بعيدة كما ﻻ يخفى .
ومع ذلك كله لم يغفل عن وضع هذا الستر المستور ، فأين من يزعمون انتفاء الخطر في حال ما أسموه بسلامة قلب الرجل والمرأة ؟
أيجدون قلوبا أسلم من قلوب الموجودين في بيت أبي سلمة إذ ذاك ؟
وإذا احتاجت النساء إلى موضع فيه رجال خرج الرجال ؛ ليدخلن ، وكذا العكس ، وﻻ يجتمعون اجتماعا يترتب عليه اختلاطهم ، كما تقدم في رواية البخاري " : إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن ، وأخرج الرجال "
وهذا بعينه ما وقع عند مصاب عظيم حلّ بالمسلمين ، إذ طُعِن عمر رضي ﷲ عنه ، واجتمع الرجال عنده ، فلما جاءت حفصة بنت عمر ومعها النساء أخلى الرجال المكان ، ﻓبقيت عنده ساعة لم يدخل الرجال فيها ، فلما أرادوا الدخول استأذنوا ، فعند ذلك قامت وأخلت المكان ليدخلوا .
قال عمرو بن ميمون فيما رواه ( البخاري ٤ / ٢٠٥ ) : " وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا ، فولجت عليه فبكت عنده ساعة ، واستأذن الرجال فولجت داخلا لهم ، فسمعنا بكاءها من الداخل "
فلماذا كل هذا ؟ والمصاب جلل ، والقلوب قد اشتغلت بما وقع ﻷمير المؤمنين أشد اشتغال ، حتى قال عمرو بن ميمون ": كأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ " ( البخاري ٤ / ٢٠٥ )
إن السبب واضح لمن أنصف ، فقد كان الغرض منع اﻻختلاط .
ولم يقل أحد من الموجودين في المكان ، ﻻ عمر رضي ﷲ عنه وﻻ غيره : إن هذا الفعل تكلف مذموم ، إذ الظرف أدق من أن يتعامل معه الناس بمثل هذا اﻷسلوب . فحفصة رضي ﷲ عنها أم للموجودين ؛لكونها أم المؤمنين ، والرجال الحاضرون من خيار المسلمين ، فيهم ابن عباس ر ضي ﷲ عنهما وغيره من اﻷخيار ، فما الداعي لمثل هذا ؟ لم يقولوه؛ لما استقر عندهم من منع اختلاط الرجال بالنساء .
ويا سبحان ﷲ ! كيف يستنكر منع اﻻختلاط في أمة كان المسلمون فيها زمن نبيهم وزمن الصدر اﻷول يعودون بناتهم لزوم الخدور : جمع خدر ، وهو ناحية في البيت ،يترك عليها ستر، وتكون فيه البكر ، كما قال ابن اﻷثير في ( النهاية ٢ / ١٣ ) 0
وذكر القرطبي أنها تلازم الخدر إلى أن تخرج منه إلى بيت زوجها ( المفهم ٦ / ١١٥ - ١١٦ )٠
فإذا كان هذا مما يصنعه أولئك السلف اﻷخيار داخل بيوتهم ، و ينشئون عليه أبكارهم ، فكيف يظن بهم أنهم يرسلون هؤﻻء اﻹناث ، ليختلطن بالرجال خارج البيوت بلا نكير ٠
وﻻ ريب أن تتبع الروايات الواردة في المنع من اﻻختلاط يطول ، والغرض من الكتابة بيان اﻷمر بإيجاز قدر المستطاع ،
ولو ذهبنا نسرد كلام أهل العلم من الشراح والمفسرين والفقهاء لطال بنا المقام ، وهو موجود بحمد ﷲ في موضعه لمن أراد الوقوف عليه ، غير أني أحب أن أنبه على أمرين بشكل مجمل :
اﻷول : أن هناك أخبارا كثيرة فيها رواية الرجال عن النساء ، ورواية النساء عن الرجال ، وهذا مما قد يتوهم البعض منه وجود اختلاط بينهم ، إذ كيف يروي رجل عن امرأة من دون أن يختلط بها !
والحق أن ذلك وقع دون اختلاط ، وهذا يدركه من عرف حال السلف ، وما كانوا عليه من اﻻحتراز عن الفتنة .
ولذا فإن الذهبي في ( السير ٧ / ٣٨ ) لما نقل إنكار هشام بن عروة على ابن إسحاق أن يحدث عن امرأته ، ﻗﺎﺋﻼ : " تحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر ! وﷲ إن رآها قط "
قال الذهبي : " هشام صادق في يمينه ، فما رآها ، وﻻ زعم الرجل أنه رآها ، بل ذكر أنها حدثته ، وقد سمعنا من عدة نسوة ، و ما رأيتهن وكذلك روى عدة من التابعين عن عائشة ، وما رأوا لها صورة أبدا "
ومراد الذهبي أن نقل الرجل عن امرأة ﻻ يعني أبدا اﻻختلاط بها ، فضلا عن رؤيتها ، وذلك لوجود ما يمنع اﻻختلاط بين الرجال والنساء .
وهذا واقع دراسات الطالبات الجامعيات منذ سنين في بلدنا المملكة العربية السعودية ، وقد تفوق عدد منهن ، ووصلن إلى مرحلة الدكتوراه ، ثم جاوزنها ، من خلال التدريس بواسطة الدائرة التلفزيونية ، دون اختلاط بحمد ﷲ .
التنبيه الثاني : أن هنالك روايات كثيرة قبل نزول الحجاب يتجلى فيها اختلاط الرجال بالنساء ، وهذه الروايات ﻻ ينبغي للمنصف أن يحتج بها ،
فإن اﻻحتجاج بما قبل الحجاب ﻻ دﻻلة فيه ؛
ﻷنه الوضع الذي كان عليه الناس قبل نزول الحكم الناسخ ،
شأنه في ذلك شأن أي حكم منسوخ ، ﻻ يحل اﻻستمساك به ، بعد أن ورد ما ينسخه ،
وإﻻ ﻷمكن أن يحتج أحد على جواز نكاح المتعة بأدلة إباحته قبل النسخ . وقل مثل هذا في نظائره من المنسوخات .
وفي بعض اﻷدلة الورادة في شأن زينة النساء الواجب سترها التنبيه إلى أن ما قد يظهر منها للرجال كان قبل اﻷمر بالحجاب ، كما في قول عائشة رضي ﷲ عنها مبينة سبب معرفة صفوان بن المعطل لها " : فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت حين عرفني ، ﻓﺧﻣﱠرتُ وجهي بجلبابي " رواه (البخاري ٧ / ٦ ومسلم ٤ / ١٦٩٢ )
فقولها : (( وكان يراني قبل الحجاب )) جواب لسؤال يتبادر إلى ذهن السامع من قولها قبل ذلك : )) فعرفني حين رآني )) فبينت أن ذلك إنما كان قبل تشريع الحجاب ، فلا عجب أن يراها ، كما كان الرجال يرون النساء ويختلطون بهن أول اﻷمر، فلما شرع ﷲ الحجاب بادرت إلى تغطية وجهها .
ومثل هذا قولها رضي ﷲ عنها كما في ( البخاري ٧ / ٥ ) : (( لما قدم رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم المدينة وعك بلال وأبو بكر فدخلت عليهما )) ٠
فهذه الواقعة كانت قبل فرض الحجاب ، ولذا قالت كما في رواية ابن إسحاق : ((ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب )) ( فتح الباري ٧ / ٣٢٨ )
ومما يوضح ذلك مارواه البخاري ( ١ / ٥٦ ) عن ابن عمر رضي ﷲ عنهما أنه قال : (( كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان الرسول صلى ﷲ عليه وسلم جميعا ))
فهذا الحديث أجاب عنه سحنون أحد أئمة المالكية بأن معناه أن الرجال كانوا يتوضئون ويذهبون ، ثم تأتي النساء ، فيتوضأن ، وبه أجاب ابن التين ،لما في لفظه من التدليل على اﻻختلاط الذي استقر منعه عندهما .
لكن اﻷولى في الجواب ، كما قال ابن حجر في ( الفتح ١ / ٣٩٠ ) : (( أن يقال ﻻمانع من اﻻجتماع قبل نزول الحجاب ، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم )) ٠
ومما يبين ذلك أن إخراج الذراعين في الوضوء ليمسهما الماء أمر ﻻبد منه للرجال والنساء ، فهل يقول من يستدل بهذا الحديث على تسويغ اﻻختلاط : إن ذلك أمر ﻻ بأس بوقوعه من النساء بمحضر من الرجال ؟
ﻻ ريب أنهم ﻻ يقولون بذلك ،
فلوا احتج أحد لجواز إبداء المرأة ذراعيها أمام الرجال بهذا الحديث لما وجدوا جوابا إﻻ أن يقولوا : هذا أمر قبل إيجاب الحجاب .
وعليه يقال : فما الذي سوغ لكم اﻻحتجاج بهذا الحديث على جواز اﻻختلا ط ، ثم لما احتج بالحديث نفسه على إبداء الذراعين سارعتم إلى نفي دﻻلته على ذلك ، ﻷنه قبل الحجاب ! ؟
وبكل حال ، فلو فرضنا أن هذه اﻷدلة التي ذكرت ـ وغيرها كثير ـ لم تقنع هؤﻻء المسوغين للاختلاط ، ورأو أن لديهم اﻷدلة على صحة ما اختاروه ، كما أن لديهم اﻷجوبة على كل دليل يدل على منع اﻻختلاط ، فيبقى سؤال كبيرعليهم اﻹجابة عنه ، مستشعرين أن ﷲ تعالى سيسألهم عن جوابهم .
وهذا السؤال : هل اﻻختلاط الذي يزعمون وجوده زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه هواﻻختلاط الذي يريدون جرَ الناس إليه ، بحيث ﻻينتج عن هذا اﻻختلاط إﻻ مانتج عن اﻻختلاط الذي يزعمون وجوده زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه ؟
فهل يجدون في اختلاط اليوم ماورد في حديث أبي داوود من ابتعاد المرأة عن الرجل في الطريق حتى تلتصق بالجدار ؟
وهل الوضع الذي بيَنَاه من حال السلف في الطواف والصلاة في المساجد ، بحيث يعتزل النساء عن الرجال عزلة حقيقية ،هواﻻختلاط الذي يتحدثون عنه اليوم ؟
وبالتالي : هل النصوص التي استدلوا بها على اﻻختلاط المزعوم ، زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم هو اﻻختلاط الذي يدعون إليه ، بحيث تطابق اﻷدلة التي احتجوا بها عين المسألة التي احتجوا لها ؟
فإن قالوا : نعم ـ وﻻ نظن منصفا منهم يقول ذلك ـ فلينظروا في آثار اﻻختلاط الواقع في كثير من البلدان اليوم ، وما جر على اﻷمة من المفاسد العظيمة ، وليقولوا : إن هذا اﻻختلاط في أصله سائغ .
وهذه اﻵثار المترتبة عليه ـ مهما كانت مريرة ـ نتيجة ﻻبد منها ﻷمر دلت عليه النصوص ! نعوذ بالله من منكرات الأقوال والأعمال .
وإن قالوا : ﻻ ـ وهو المظنون بالمنصفين منهم ـ بل اﻻختلاط الذي ننسبه إلى زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه يختلف كل اﻻختلاف عن اختلاط اليوم ، وﻻ ينبغي مقارنة هذا بذاك .
فيقال لهم : بأي حق استدللتم بنصوص ذات ضوابط محددة ، مربوطة بوقائع معينة على واقع يختلف كل اﻻختلاف عن تلك الوقائع . ؟
فوسعتم الدائرة حتى شملت ماﻻ يدخل في دﻻﻻت النصوص ، وألحقتم المسألة المبحوثة بما ليس من نظائرها ٠
وهل سيبقى للنصوص كلها مدلول واضح إذا أدخل فيها ما ليس منها ، على النحو الذي صنعتموه ؟
إذا فليحسبوا لدعوتهم الحساب الدقيق ، وليتأملوا في المصير الذي يمكن أن تُجرّ إليه اﻷمة ،
وليحذروا من تناول هذه المسائل العظيمة بأسلوب المراء والجدل المحض الذي ينظر فيه إلى مجرد ادعاء الغلبة ، وزعم التمكن من إسقاط ﺣﺟﺞ المخالف ، دون النظر فيما يترتب على هذه اﻷمور من العواقب .
وهذا هو الذي نخشاه من دخول حملة العلم الشرعي في هذه الدعوة .
ومما يبعث على القلق تلكم الطريقة العنيفة التي اختاروا طرح وجهتهم من خلالها ، من قبيل وصف المنكرين للاختلاط ﺑﺎﻟﻣﺣدثين ، وكأنهم قد دعوا اﻷمة إلى هدي كسرى وقيصر قبل الإسلام ، ﻻ إلى ما دلت عليه النصوص .
ومن ذلك وصفهم بالجمود والدفاع عن المألوف الذي اعتادوه ، وأرادوا أن ينسبوه إلى الدين ، في عبارات تقشعر منها قلوب المنصفين ، لما يترتب عليها من وصم علماء اﻷمة قديما وحديثا بهذه اﻷوصاف المقذعة
فإن منع العلماء من اﻻختلاط ليس شيئا حديثا اختاره علماء متأخرون في بيئة محددة ، كما يهوون أن يصوروا للناس ، ليحصروا معركتهم مع علماء بلد معينين ، بل المنع من اﻻختلاط قديم في كـﻼم السلف ومن بعدهم ، كما تقدم في قول عطاء وسحنون وكلام ابن حجر وابن التين وصاحب عون المعبود ، وغيرهم كثير ممن لو نقلت كلامهم ، وعددت أزمنتهم وأوطانهم لطال بنا المقام جدا .
وكتب أهل العلم مليئة بالشواهد على هذا ، وﷲ المستعان ..
نسأل ﷲ أن يرينا وإخواننا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل
باطﻼ ويرزقنا اجتنابه ، وأن ﻻيجعله ملتبسا علينا فنضل ، كما نسأله تعالى أن يجعلنا من مفاتيح الخير ، مغاليق الشر ، وأن ﻻيجعلنا من مفاتيح الشر ، مغاليق الخير . ونسأله أن ينصر هذا الدين ، ويعز السنة ويحببها إلينا ، وأن يؤلف بها بين قلوبنا . وﷲ أعلم وصلى ﷲ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
وإن من اﻻختلاف الذي ذكر في هذا الحديث ما وقع ويقع من إنكار ما دلت عليه النصوص ، وتتابع على القول به علماء اﻷمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
وتلكم محنة قديمة تتعدد أمثلتها بين حين وآخر ، بَيْد أنها أضحت في هذه اﻷزمنة المتأخرة أكثر انتشارا وأعظم استفحاﻻ .
ومن أشد ما يصيب الحليم بالحيرة أن يقع في هذا أحد من حملة العلم الشرعي ، أما الجاهل فلا عجب أن يخبص في اﻷمور ، وينفي ما هو مقطوع به عند أهل العلم ، فلا يترتب على صنيعه كبير خلل في الغالب ؛ ﻷنه في نهاية المطاف مجرد جاهل ٠
كما أن اﻷمر ﻻ يخفى على الناس إذا دخل في هذه اﻷمور من فُتِنوا بمدنية الغرب ومسايرة ما هم عليه من الحال البغيض في شتى مناحي الحياة ؛ﻷن بطﻼن منهج هذا الصنف واضح للعيان ، ﻻ يحتاج الناس في بيان بطﻼنه إلى كبير ﻋﻧﺎء ، كيف وقد قال قائلهم بأن علينا أن نساير هذه المدنية الغربية في خيرها وشرها ، وحلوها ومرها ، وما يعاب فيها وما يحسن !
إذاً اﻹشكال فيما يقع من حملة العلم الشرعي .
ومن آخر ما كثر الكلام فيه موضوع اﻻختلاط بين الرجال والنساء من غير المحارم ، حيث سوّغه بعضهم ، بل قال : إن ﻛﻠﻣﺔ ( اﻻختلاط ) مُحدثة لم يرد في النصوص ما يدل عليها بالكلية .
وهؤﻻء مسبوقون من أناس كتبوا في هذا الموضوع منذ عقود ، وكان كلامهم في نطاق كلام عام عن المرأة وحجابها وحدود علاقتها بالرجل .
وقد جمعوا نصوصا استدلوا بها على وجهتهم هذه ، غاضين الطرف عن نصوص أخرى جلّت المسألة ووضحتها .
ومن أعجب ما ذكروه أن كلمة ( اﻻختلاط ) تميزت – إضافة إلى كونها محدثة – ﺑﺎﻹﺑهام وعدم الوضوح ، ودلّلوا في هذا السبيل بوقائع جِرِت زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم ، من أشهرها اختلاط الرجال بالنساء بزعمهم حال الطواف ﺑﺎﻟﻛﻌﺑﺔ ، ، وفي المسجد عند أداء الصلاة دون نكير .
وغفل هؤﻻء عن وقوعهم فيما أنكروه على غيرهم ، حيث أوهموا بكلامهم هذا أن مجرد وجود الرجال والنساء في موضع واحد هو اﻻختلاط الذي منعه العلماء ، فأبهموا اﻷمر على الناس ، وأشعروا أن المنع من اﻻختلاط يقصد به منع اجتماع الرجال والنساء في أي موضع كان .
وهذا من تقويل أهل العلم ما لم يقولوا ، فإنهم لم يقولوا هذا ، ولم يكن اﻷمر عندهم بحمد ﷲ ملتبسا ، حتى يتحدث بالنيابة عنهم غيرهم ٠
و قد بين البخاري في صحيحه حقيقة هذا اﻷمر بما ترجم به على أمر ابن هشام والي مكة بعدم طواف النساء مع الرجال ، فقال رحمه ﷲ في صحيحه ( ٢ / ١٦٣ ) " باب طواف النساء مع الرجا ل " ثم ساق بسنده هذه المناقشة التي يتضح منها بجلاء أن طواف الرجال مع النساء ﻻ يعني أبدا اﻻختلاط بينهم .
والمناقشة كانت بين عطاء بن أبي رباح فقيه أهل مكة وبين تلميذه ابن جريج ، حيث قال عطاء منكرا صنيع الوالي : " كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى ﷲ عليه وسلم مع الرجال ! " ﻓﻘال ابن جريج : " كيف يخالطن الرجال ! "فجاء جواب عطاء واضحا ": لم يكن يخالطن "
ففرق – كما ترى – بين طواف الرجال مع النساء في موضع واحد ، وهو المسجد الحرام ، وبين اختلاط الرجال بالنساء .
والمحتجون على جواز اﻻختلاط يجعلون من أول ما يستدلون به على اﻻختلاط ما يكون في المسجد الحرام من طواف النساء مع الرجال ،
ثم إن عطاءً وضح بعد ذلك كيف تطوف النساء مع الرجال ، دون أن يكون من آثار ذلك وقوع اﻻختلاط . فقال ضاربا المثال بالطيبة المطهرة عائشة رضي ﷲ عنها ": كانت عائشة تطوف حَجْرةً من الرجال ﻻ تخالطهم "
ومعنى قوله ( حجرة ) : ناحيةً ، مأخوذ من قولهم : نزل فلان حجرة من الناس : أي معتزﻻ انظر( فتح الباري ٣ / ٦٠٧ )
ليس هذا فحسب ، بل إن امرأة – كما في رواية البخاري المذكورة – قالت لعائشة ": انطلقي نستلم يا أم المؤمنين ، قالت : انطلقي عنك ، وأَبَت " . وإنما أبت رضي ﷲ عنها ؛ﻷن اﻻستلام بالوضع الذي تريده المرأة سيترتب عليه مزاحمة الرجال واﻻختلاط بهم .
وهذا ما أنكرته أم المؤمنين رضي ﷲ عنها على موﻻة لها قالت : يا أم المؤمنين طفت بالبيت سبعا ، واستلمت الركن ﻣر تين أو ثلاثا ، فقالت لها : ﻻ أجرك ﷲ ، ﻻ أ جرك ﷲ ، تدافعين ا لرجال ؟ أﻻ كبرت ومررت " رواه ( الشافعي في اﻷم ٢ / ١٧٢ ، والبيهقي من طريقه في السنن الكبرى ٥ / ٨٠ )
فتأمل كيف بررت عائشة إنكارها على موﻻتها بأن صنيعها سيؤدي حتما إلى مزاحمتها للرجال ، وهو عين اﻻختلاط الذي نأت أم المؤمنين بنفسها عنه ، وإن كانت الجاهلة من النساء تستسهله ، بدعوى إقامة السنة باستلام الركن .
وإذا عدنا لرواية البخاري التي بدأنا بها وجدنا اﻻحتياط التام ﻹبعاد النساء عن اﻻختلاط بالرجال ، حيث يقول عطاء ": فكن يخرجن متنكرات بالليل ، فيطفن مع الرجال ."
ومعنى " متنكرات " مبيّن في رواية عبد الرزاق ( 5 /67 )، حيث قال " مستترات "
هذا اﻻحتياط اﻷول .
أما اﻻحتياط الثاني فبينه عطاء بقوله ": ولكنهن كنّ إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن ، وأُخرج الرجال "
والمعنى كما في ( فتح الباري ٣ / ٦٠٧ ) " إذا أردن دخول البيت وقفن ، حتى يدخلن ، حال كون الرجال مخرجين منه "
وهل كل هذا إﻻ من باب تجنب اختلاطهن بالرجال؟
ولهذا فإن النبي صلى ﷲ عليه وسلم لما وقع اختلاط محرم للنساء بالرجال مرة بادر عليه الصلاة والسلام بإنكاره ، فروى ( أبو داود ٥٢٧٢ ) عن أبي أسيد اﻷنصاري رضي ﷲ عنه أنه سمع رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد ، فاختلط الرجال مع النساء في الطريق ، فقال رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم للنساء ": استأخِرْن ، فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق ، عليكن بحافات الطريق ، فكانت المرأة تلتصق بالجدار ، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به "
ومعنى (ليس لكن أن تحققن الطريق ) أ ي وسطها ، كما في ( النهاية ﻻبن اﻷثير ١ / ٤١٥) 0
وقد ترجم أبو داود على الحديث ترجمة قريبة من ترجمة البخاري على طواف الرجال مع النساء ، فقال أبو داود : " باب في مشي النساء مع الرجال في الطريق " 0
ففهم رحمه ﷲ أن المشي في الطريق ﺷﻲء ، واﻻختلاط الذي أنكره النبي صلى ﷲ عليه وسلم شيء آخر .
وذلك أن الطرق ﻻيمكن أن يُمنع الناس من المرور فيها ، فيمر الرجال وتمر النساء ، ولكن ﻻ يحل أن يكون ذلك على حال من اختلاطهم .
ومن هنا ترجم أبو داود في السنن على صلاة النساء مع الرجال في المسجد ترجمة تبين حقيقة ما كان عليه الناس زمن النبوة من التباعد من اﻻختلاط فقال " : باب اعتزال النساء في المساجد عن الرجال " ثم ساق بسنده عن ابن عمر رضي ﷲ عنهما أن النبي صلى ﷲ عليه وسلم قال " : لو تركنا هذا الباب للنساء " فلم يدخل منه ابن عمر حتى مات .
قال صاحب (عون المعبود ٢ / ١٣٠) " : لو تركنا هذا الباب " أي باب المسجد الذي أشار إليه النبي صلى ﷲ عليه وسلم لكان خيرا وأحسن ؛ لئلا تختلط النساء بالرجال في الدخول والخروج من المسجد ، والحديث فيه دليل أن النساء ﻻ يختلطن في المساجد مع الرجال ، بل يعتزلن في جانب المسجد "...
وقد جاء اﻻحتياط من اﻻختلاط المحرم حتى في اﻷحوال الصعبة ، فهذا رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم لما حضرت الوفاة صاحبه الجليل أبا سلمة حضره النبي صلى الله عليه وسلم وبينه وبين النساء ستر مستور ، كما رواه ( ابن سعد في الطبقات ٣ / ٢٤١ ) .
فهذا الستر المستور بين الرجال والنساء ليس له معنى إﻻ منع اﻻختلاط ، مع أن الموضع فيه رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم – أزكى الناس وأطهرهم وأبعدهم عن أي ريبة - .
كما أن القوم –رجاﻻ ونساء – ينتابهم الحزن بوفاة هذا الصحابي الكريم ، وذلك كله مما يجعل فتنة الرجال بالنساء – والحال ما ذكر - بعيدة كما ﻻ يخفى .
ومع ذلك كله لم يغفل عن وضع هذا الستر المستور ، فأين من يزعمون انتفاء الخطر في حال ما أسموه بسلامة قلب الرجل والمرأة ؟
أيجدون قلوبا أسلم من قلوب الموجودين في بيت أبي سلمة إذ ذاك ؟
وإذا احتاجت النساء إلى موضع فيه رجال خرج الرجال ؛ ليدخلن ، وكذا العكس ، وﻻ يجتمعون اجتماعا يترتب عليه اختلاطهم ، كما تقدم في رواية البخاري " : إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن ، وأخرج الرجال "
وهذا بعينه ما وقع عند مصاب عظيم حلّ بالمسلمين ، إذ طُعِن عمر رضي ﷲ عنه ، واجتمع الرجال عنده ، فلما جاءت حفصة بنت عمر ومعها النساء أخلى الرجال المكان ، ﻓبقيت عنده ساعة لم يدخل الرجال فيها ، فلما أرادوا الدخول استأذنوا ، فعند ذلك قامت وأخلت المكان ليدخلوا .
قال عمرو بن ميمون فيما رواه ( البخاري ٤ / ٢٠٥ ) : " وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها فلما رأيناها قمنا ، فولجت عليه فبكت عنده ساعة ، واستأذن الرجال فولجت داخلا لهم ، فسمعنا بكاءها من الداخل "
فلماذا كل هذا ؟ والمصاب جلل ، والقلوب قد اشتغلت بما وقع ﻷمير المؤمنين أشد اشتغال ، حتى قال عمرو بن ميمون ": كأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ " ( البخاري ٤ / ٢٠٥ )
إن السبب واضح لمن أنصف ، فقد كان الغرض منع اﻻختلاط .
ولم يقل أحد من الموجودين في المكان ، ﻻ عمر رضي ﷲ عنه وﻻ غيره : إن هذا الفعل تكلف مذموم ، إذ الظرف أدق من أن يتعامل معه الناس بمثل هذا اﻷسلوب . فحفصة رضي ﷲ عنها أم للموجودين ؛لكونها أم المؤمنين ، والرجال الحاضرون من خيار المسلمين ، فيهم ابن عباس ر ضي ﷲ عنهما وغيره من اﻷخيار ، فما الداعي لمثل هذا ؟ لم يقولوه؛ لما استقر عندهم من منع اختلاط الرجال بالنساء .
ويا سبحان ﷲ ! كيف يستنكر منع اﻻختلاط في أمة كان المسلمون فيها زمن نبيهم وزمن الصدر اﻷول يعودون بناتهم لزوم الخدور : جمع خدر ، وهو ناحية في البيت ،يترك عليها ستر، وتكون فيه البكر ، كما قال ابن اﻷثير في ( النهاية ٢ / ١٣ ) 0
وذكر القرطبي أنها تلازم الخدر إلى أن تخرج منه إلى بيت زوجها ( المفهم ٦ / ١١٥ - ١١٦ )٠
فإذا كان هذا مما يصنعه أولئك السلف اﻷخيار داخل بيوتهم ، و ينشئون عليه أبكارهم ، فكيف يظن بهم أنهم يرسلون هؤﻻء اﻹناث ، ليختلطن بالرجال خارج البيوت بلا نكير ٠
وﻻ ريب أن تتبع الروايات الواردة في المنع من اﻻختلاط يطول ، والغرض من الكتابة بيان اﻷمر بإيجاز قدر المستطاع ،
ولو ذهبنا نسرد كلام أهل العلم من الشراح والمفسرين والفقهاء لطال بنا المقام ، وهو موجود بحمد ﷲ في موضعه لمن أراد الوقوف عليه ، غير أني أحب أن أنبه على أمرين بشكل مجمل :
اﻷول : أن هناك أخبارا كثيرة فيها رواية الرجال عن النساء ، ورواية النساء عن الرجال ، وهذا مما قد يتوهم البعض منه وجود اختلاط بينهم ، إذ كيف يروي رجل عن امرأة من دون أن يختلط بها !
والحق أن ذلك وقع دون اختلاط ، وهذا يدركه من عرف حال السلف ، وما كانوا عليه من اﻻحتراز عن الفتنة .
ولذا فإن الذهبي في ( السير ٧ / ٣٨ ) لما نقل إنكار هشام بن عروة على ابن إسحاق أن يحدث عن امرأته ، ﻗﺎﺋﻼ : " تحدث ابن إسحاق عن امرأتي فاطمة بنت المنذر ! وﷲ إن رآها قط "
قال الذهبي : " هشام صادق في يمينه ، فما رآها ، وﻻ زعم الرجل أنه رآها ، بل ذكر أنها حدثته ، وقد سمعنا من عدة نسوة ، و ما رأيتهن وكذلك روى عدة من التابعين عن عائشة ، وما رأوا لها صورة أبدا "
ومراد الذهبي أن نقل الرجل عن امرأة ﻻ يعني أبدا اﻻختلاط بها ، فضلا عن رؤيتها ، وذلك لوجود ما يمنع اﻻختلاط بين الرجال والنساء .
وهذا واقع دراسات الطالبات الجامعيات منذ سنين في بلدنا المملكة العربية السعودية ، وقد تفوق عدد منهن ، ووصلن إلى مرحلة الدكتوراه ، ثم جاوزنها ، من خلال التدريس بواسطة الدائرة التلفزيونية ، دون اختلاط بحمد ﷲ .
التنبيه الثاني : أن هنالك روايات كثيرة قبل نزول الحجاب يتجلى فيها اختلاط الرجال بالنساء ، وهذه الروايات ﻻ ينبغي للمنصف أن يحتج بها ،
فإن اﻻحتجاج بما قبل الحجاب ﻻ دﻻلة فيه ؛
ﻷنه الوضع الذي كان عليه الناس قبل نزول الحكم الناسخ ،
شأنه في ذلك شأن أي حكم منسوخ ، ﻻ يحل اﻻستمساك به ، بعد أن ورد ما ينسخه ،
وإﻻ ﻷمكن أن يحتج أحد على جواز نكاح المتعة بأدلة إباحته قبل النسخ . وقل مثل هذا في نظائره من المنسوخات .
وفي بعض اﻷدلة الورادة في شأن زينة النساء الواجب سترها التنبيه إلى أن ما قد يظهر منها للرجال كان قبل اﻷمر بالحجاب ، كما في قول عائشة رضي ﷲ عنها مبينة سبب معرفة صفوان بن المعطل لها " : فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت حين عرفني ، ﻓﺧﻣﱠرتُ وجهي بجلبابي " رواه (البخاري ٧ / ٦ ومسلم ٤ / ١٦٩٢ )
فقولها : (( وكان يراني قبل الحجاب )) جواب لسؤال يتبادر إلى ذهن السامع من قولها قبل ذلك : )) فعرفني حين رآني )) فبينت أن ذلك إنما كان قبل تشريع الحجاب ، فلا عجب أن يراها ، كما كان الرجال يرون النساء ويختلطون بهن أول اﻷمر، فلما شرع ﷲ الحجاب بادرت إلى تغطية وجهها .
ومثل هذا قولها رضي ﷲ عنها كما في ( البخاري ٧ / ٥ ) : (( لما قدم رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم المدينة وعك بلال وأبو بكر فدخلت عليهما )) ٠
فهذه الواقعة كانت قبل فرض الحجاب ، ولذا قالت كما في رواية ابن إسحاق : ((ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة ، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب )) ( فتح الباري ٧ / ٣٢٨ )
ومما يوضح ذلك مارواه البخاري ( ١ / ٥٦ ) عن ابن عمر رضي ﷲ عنهما أنه قال : (( كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان الرسول صلى ﷲ عليه وسلم جميعا ))
فهذا الحديث أجاب عنه سحنون أحد أئمة المالكية بأن معناه أن الرجال كانوا يتوضئون ويذهبون ، ثم تأتي النساء ، فيتوضأن ، وبه أجاب ابن التين ،لما في لفظه من التدليل على اﻻختلاط الذي استقر منعه عندهما .
لكن اﻷولى في الجواب ، كما قال ابن حجر في ( الفتح ١ / ٣٩٠ ) : (( أن يقال ﻻمانع من اﻻجتماع قبل نزول الحجاب ، وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم )) ٠
ومما يبين ذلك أن إخراج الذراعين في الوضوء ليمسهما الماء أمر ﻻبد منه للرجال والنساء ، فهل يقول من يستدل بهذا الحديث على تسويغ اﻻختلاط : إن ذلك أمر ﻻ بأس بوقوعه من النساء بمحضر من الرجال ؟
ﻻ ريب أنهم ﻻ يقولون بذلك ،
فلوا احتج أحد لجواز إبداء المرأة ذراعيها أمام الرجال بهذا الحديث لما وجدوا جوابا إﻻ أن يقولوا : هذا أمر قبل إيجاب الحجاب .
وعليه يقال : فما الذي سوغ لكم اﻻحتجاج بهذا الحديث على جواز اﻻختلا ط ، ثم لما احتج بالحديث نفسه على إبداء الذراعين سارعتم إلى نفي دﻻلته على ذلك ، ﻷنه قبل الحجاب ! ؟
وبكل حال ، فلو فرضنا أن هذه اﻷدلة التي ذكرت ـ وغيرها كثير ـ لم تقنع هؤﻻء المسوغين للاختلاط ، ورأو أن لديهم اﻷدلة على صحة ما اختاروه ، كما أن لديهم اﻷجوبة على كل دليل يدل على منع اﻻختلاط ، فيبقى سؤال كبيرعليهم اﻹجابة عنه ، مستشعرين أن ﷲ تعالى سيسألهم عن جوابهم .
وهذا السؤال : هل اﻻختلاط الذي يزعمون وجوده زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه هواﻻختلاط الذي يريدون جرَ الناس إليه ، بحيث ﻻينتج عن هذا اﻻختلاط إﻻ مانتج عن اﻻختلاط الذي يزعمون وجوده زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه ؟
فهل يجدون في اختلاط اليوم ماورد في حديث أبي داوود من ابتعاد المرأة عن الرجل في الطريق حتى تلتصق بالجدار ؟
وهل الوضع الذي بيَنَاه من حال السلف في الطواف والصلاة في المساجد ، بحيث يعتزل النساء عن الرجال عزلة حقيقية ،هواﻻختلاط الذي يتحدثون عنه اليوم ؟
وبالتالي : هل النصوص التي استدلوا بها على اﻻختلاط المزعوم ، زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم هو اﻻختلاط الذي يدعون إليه ، بحيث تطابق اﻷدلة التي احتجوا بها عين المسألة التي احتجوا لها ؟
فإن قالوا : نعم ـ وﻻ نظن منصفا منهم يقول ذلك ـ فلينظروا في آثار اﻻختلاط الواقع في كثير من البلدان اليوم ، وما جر على اﻷمة من المفاسد العظيمة ، وليقولوا : إن هذا اﻻختلاط في أصله سائغ .
وهذه اﻵثار المترتبة عليه ـ مهما كانت مريرة ـ نتيجة ﻻبد منها ﻷمر دلت عليه النصوص ! نعوذ بالله من منكرات الأقوال والأعمال .
وإن قالوا : ﻻ ـ وهو المظنون بالمنصفين منهم ـ بل اﻻختلاط الذي ننسبه إلى زمن النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه يختلف كل اﻻختلاف عن اختلاط اليوم ، وﻻ ينبغي مقارنة هذا بذاك .
فيقال لهم : بأي حق استدللتم بنصوص ذات ضوابط محددة ، مربوطة بوقائع معينة على واقع يختلف كل اﻻختلاف عن تلك الوقائع . ؟
فوسعتم الدائرة حتى شملت ماﻻ يدخل في دﻻﻻت النصوص ، وألحقتم المسألة المبحوثة بما ليس من نظائرها ٠
وهل سيبقى للنصوص كلها مدلول واضح إذا أدخل فيها ما ليس منها ، على النحو الذي صنعتموه ؟
إذا فليحسبوا لدعوتهم الحساب الدقيق ، وليتأملوا في المصير الذي يمكن أن تُجرّ إليه اﻷمة ،
وليحذروا من تناول هذه المسائل العظيمة بأسلوب المراء والجدل المحض الذي ينظر فيه إلى مجرد ادعاء الغلبة ، وزعم التمكن من إسقاط ﺣﺟﺞ المخالف ، دون النظر فيما يترتب على هذه اﻷمور من العواقب .
وهذا هو الذي نخشاه من دخول حملة العلم الشرعي في هذه الدعوة .
ومما يبعث على القلق تلكم الطريقة العنيفة التي اختاروا طرح وجهتهم من خلالها ، من قبيل وصف المنكرين للاختلاط ﺑﺎﻟﻣﺣدثين ، وكأنهم قد دعوا اﻷمة إلى هدي كسرى وقيصر قبل الإسلام ، ﻻ إلى ما دلت عليه النصوص .
ومن ذلك وصفهم بالجمود والدفاع عن المألوف الذي اعتادوه ، وأرادوا أن ينسبوه إلى الدين ، في عبارات تقشعر منها قلوب المنصفين ، لما يترتب عليها من وصم علماء اﻷمة قديما وحديثا بهذه اﻷوصاف المقذعة
فإن منع العلماء من اﻻختلاط ليس شيئا حديثا اختاره علماء متأخرون في بيئة محددة ، كما يهوون أن يصوروا للناس ، ليحصروا معركتهم مع علماء بلد معينين ، بل المنع من اﻻختلاط قديم في كـﻼم السلف ومن بعدهم ، كما تقدم في قول عطاء وسحنون وكلام ابن حجر وابن التين وصاحب عون المعبود ، وغيرهم كثير ممن لو نقلت كلامهم ، وعددت أزمنتهم وأوطانهم لطال بنا المقام جدا .
وكتب أهل العلم مليئة بالشواهد على هذا ، وﷲ المستعان ..
نسأل ﷲ أن يرينا وإخواننا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ، ويرينا الباطل
باطﻼ ويرزقنا اجتنابه ، وأن ﻻيجعله ملتبسا علينا فنضل ، كما نسأله تعالى أن يجعلنا من مفاتيح الخير ، مغاليق الشر ، وأن ﻻيجعلنا من مفاتيح الشر ، مغاليق الخير . ونسأله أن ينصر هذا الدين ، ويعز السنة ويحببها إلينا ، وأن يؤلف بها بين قلوبنا . وﷲ أعلم وصلى ﷲ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه