الخوف من تغلغل الرموز المرفوضة يدل على احساس بعدم الثقة
الخوف المبالغ فيه من تغلغل الرموز المرفوضة يدل على احساس دفين وعميق بعدم الثقة واستضعاف الذات
قبل عدة سنوات، قامت الخطوط الجوية العربية السعودية بتغيير طريقة كتابتها لأحد الأحرف التي تشكل اسم المؤسسة بالانجليزية. فقد ارسل احدهم رسالة الى احدى الجرائد ينبه فيها المؤسسة إلى أن حرفS وحرف A الذي يليه مباشرة في كلمة saudia يشكلان صليباً كما يبدو.
والناظر للطريقة التي كان يكتب بها هذان الحرفان على الطائرات السعودية، يتبين انهما فعلاً يشكلان صليباً في ما بينهما، وعجبت لدقة ملاحظة من كتب الرسالة، وكيف ان الآلاف ممن يستخدمون طائرات المؤسسة لم يلحظوا هذا الشيء، بل ان مصمم الشعار نفسه ربما لم يلفت انتباهه هذا الأمر. فعلاً اعجبت بشدة دقة ملاحظة كاتب الرسالة، وتصورت ما يمكن ان ينتجه مثل هذا الذكاء ـ فدقة الملاحظة من الذكاء ـ
فيما لو توجه الى امور أكثر عمقاً. وقد قامت الخطوط السعودية بعد ذلك بتغيير تصميم الشعار.
المشكلة ان الطائرة كلها تأخذ شكل الصليب حين النظر اليها من زاوية معينة، فهل بمقدورنا أن نستغني عن الطائرة لهذا السبب، أو أن نطالب بصناعة طائرات لا تأخذ شكلاً يحاكي الصليب؟
وهل من الممكن ان تطير الطائرة بعد ذلك
فإذا كنا قادرين على محو «الصليب» المفترض من هنا وهناك، فهل بإمكاننا إعادة صناعة وصياغة ما رُسم الصليب عليه؟
اتمنى ذلك.
وبمناسبة الحديث عن الصليب، فإني أذكر أنه . والى وقت قريب، كان معظم الناس في ديرتنا (
بني مالك)ممن يلبسون الساعات، يصرون على نوع معين من الساعات، كانوا يسمونها ساعة «
أم صليب»، وهي ساعة سوداء الميناء في الغالب، بصليب فسفوري منقوش بوضوح في اعلاها. كانت هذه الساعة مشهورة بدقتها وصلابتها في نفس الوقت، بحيث ان المؤذنين في تلك الفترة لم يكونوا يلبسون غيرها، وكانت لذلك مرغوبة من الجميع، رغم ان الصليب الفسفوري فيها كان يبرق حتى في أشد الليالي عتمة.
لم يرفض الناس الساعة لمجرد وجود الصليب فيها، رغم انهم يعلمون ان الصليب رمز للمسيحية، ولم يعر الناس وقتها اهتماماً بالصليب،
بقدر ما كان البحث عن الجودة هو الهم.
كما ان وجود الصليب في الساعة لم يمنعهم من اداء واجباتهم والتزاماتهم الدينية، ولم يجعلهم نصارى في نهاية المطاف، وبقوا على دينهم وورعهم حتى اليوم.
تذكرت هذه الحالات وأنا الاحظ هوس البعض هذه الأيام بالبحث عن الصليب أو نجمة داوود بالذات، في أي شكل يتخذ شكل الصليب أو النجمة، أو من الممكن ان يتخذهما، أو غير ذلك من كلمات وأشكال قد تُعطى من المعاني أكثر مما تحتمل. فها هو احدهم يكتشف ان «كوكا كولا» بالانجليزية، يُمكن أن تقرأ اذا قلبت «لا محمد لا مكة»، أو ان «سفن أب» بالإنجليزية يمكن أن تقرأ اذا قلبت «الله»، أو أن نجمة داوود السداسية، قد اكتشفت ضمن أشكال اخرى في علبة بسكويت أو مكعبات للأطفال، أو مطبوعة على قطعة قماش، أو ضمن نقوش في لبس معين، وهكذا. واثيرت مشكلة حول لعبة للأطفال، بالقول انها تعني في اللغة العبرية اشياء، لا تعنيها حقيقة في لغتها الأصلية التي وضعت بها، وأشياء اخرى كثيرة من هذا النمط.
فاللون الأحمر، مثلاً، موجود على الدوام، ونستخدمه على الدوام، بل هو لون الدم الذي يسري في عروقنا منذ الأزل، بدون أن يكون له معنى محدد على الإجمال. ولكن حين تتحول قطعة قماش حمراء إلى علم لهذه الدولة أو تلك الحركة، فإنها تتحول إلى رمز. تتحول إلى رمز للشيوعية أو الاشتراكية أو الثورية مثلاً، ولكن هل معنى ذلك أن نتوقف عن استخدام اللون الأحمر في ملابسنا لمجرد أنه أصبح رمزاً لمذهب معين قد لا نتفق معه؟
فرغم كل الرموز، يبقى الوجود المجرد للأشياء سابقاً على الترميز، وهذه حقيقة طبيعية وتاريخية في ذات الوقت. ففي آثار الفراعنة مثلاً نجد الكثير من الصلبان (مفتاح النيل مثلاً)، ولكن ذلك لا يعني ان الفراعنة كانوا من المسيحيين، أو كانوا يعلمون عن المسيحية ويعتنقونها حتى قبل ظهورها. وفي حضارات بائدة اخرى، نجد الصليب المعكوف واضحاً في آثارهم، ولكن ذلك لا يعني انهم كانوا من النازيين.
بل وفي آثارنا الفنية الإسلامية، وفن الزخرفة الإسلامية تحديداً، نجد الكثير من الأشكال التي تتخذ شكل النجمة السداسية(المسجد النبوي بالمدينة, والجزء القديم من الحرم المكي)، فهل نقوم هنا بطمس هذه الفنون لمجرد احتوائها على هذا الشكل، لمجرد ان الحركة الصهيونية اتخذته شعاراً بعد ذلك؟ ثم هل كان المسلمون الأوائل من اليهود، أو انهم كانوا خاضعين لسلطان اليهود، بحيث لا يلفت نظرهم مثل هذه الاشكال،
ام اننا اكثر اسلاماً منهم؟ بل ان الانسان نفسه يشكل صليباً اذا نظرنا اليه من زاوية معينة، فهل نمنع حركات معينة، أو نقطع الاذرع منا سداً لذريعة ان نكون صلباناً تمشي على الأرض؟ لقد اتخذ المسيحيون الصليب رمزاً لهم لأن انساناً، هو المسيح في عقيدتهم، صُلب عليه كما يعتقدون. بمعنى أن الصليب صُنع على هذا الشكل ليتناسب مع شكل المصلوب عليه، أي أن المصلوب سابق في شكله على الصليب. بمعنى أن الضرورات العملية (عملية الصلب) هي التي ادت إلى اختيار شكل الصليب دون غيره، ولم يكن الصليب قبل ذلك في وجوده المجرد دالاً على شيء محدد، وتحول الصليب نتيجة هذه العملية الى رمز للمؤمنين بصلب المسيح.
أما الشكل ذاته، فهو موجود في كل مكان يمكن ان تنظر اليه: في تقاطعات الشوارع، وفي ارفف المكتبات، وفي لوحات الإعلانات، وفي اعمدة الكهرباء والتلفون، وفي أشكال الأبواب والنوافذ، وفي الرموز الرياضية، وغيرها كثير، فهل نلغي كل هذه الأشكال لمجرد أنها تشكل صليباً مرفوضاً في أذهان البعض؟. بإيجاز العبارة، سوف تجد الصليب أو النجمة السداسية أو الهلال، في ما لو كان الناظر من الطرف الآخر، أو أي رمز آخر، في كل شيء تراه